عندما يقول جو بايدن إنه لن يترك منافسه دونالد ترمب يفوز «ولو على جثتي»، فيما يستوحي أنصار الأخير من سيرته وخطبه ما يجعلهم يلوّحون بـ«حرب أهلية» في حال خسارته، فإن المعركة الرئاسية، سواء استطاع بايدن إكمالها أم لا، تبدو منذ الآن انتكاسة فادحة لكل ما تمثله أمريكا لنفسها وللعالم. والأكيد أن حادث إطلاق النار على ترمب في بنسلفانيا يضاعف المخاوف والمخاطر. وليست الإشارة هنا إلى الديمقراطية، فهذه بنسختها الأمريكية أو الغربية أصبحت منذ زمن موضع جدل وتساؤل، بدليل التجارب الانتخابية المعاقبة، وآخرها في فرنسا حيث لمّح إيمانويل ماكرون إلى احتمال «حرب أهلية» إذا فاز اليمين المتطرّف في الانتخابات التشريعية... وإنما هي إشارة إلى أن الانقسامات تزداد حدّة داخل المجتمعات الغربية وكيف أنها أصبحت تدفع في اتجاه العنف.

صدفةٌ أو توارد خواطر أو استشراف تحذيري، يُعرض حالياً في صالات الولايات المتحدة فيلم «حرب أهلية»، وهو لا يتمحور على الاشتباك السياسي الراهن، بل يتخيّل «قوى انفصالية» مختلفة تخوض حرباً ضد «رئيس مستبد» مكث في الحكم ثلاث ولايات ولا يزال متشبثاً بالسلطة. لا شك أن الهجوم على مبنى الكابيتول (6/1/2021) جعل كثيرين يوقنون بأن كل شيء بات ممكناً في أمريكا المعاصرة، طالما أن «وطنيين»، كما وصفهم ترمب، يمكن أن يهاجموا الكونجرس لأنه كان يستعد للمصادقة على فوز خصمه بايدن بالرئاسة. هذه الواقعة كانت إرهاصاً لما هو أسوأ، فالمهاجمون لم يقيموا اعتباراً لرجال الأمن الذين حاولوا صدّهم من دون عنف. وقياساً إلى ما حصل في ذلك اليوم وفي أحداث سابقة ولاحقة، بعضٌ منها عنصري وآخر تمرّدي احتجاجي على الهجرة غير الشرعية، أمكن الفيلم إيراد مشاهد يبدو فيها الصراع داخل أمريكا وكأنه يستنسخ حروب غزّة وسوريا واليمن، فضلاً عن أوكرانيا. أما الجدل المواكب للفيلم وللتطورات السياسية فلم يجزم في ما إذا كانت «الحرب الأهلية» محتملة في حال خسارة ترامب أو فوزه.

مع ذلك، لا يغيب عن النقاش أن الديمقراطية في مأزق، وهناك من يختزل الأسباب بارتباط الأداء السيئ للاقتصاد بزيادة معدّلات الهجرة واستطراداً ارتباط الهجرة بتراجع الأمن. لذا يميل المزاج الشعبي إلى اليمين المتطرّف بحثاً عن حاكم قوي -بمعنى مستبد- لا يهجس بالقوانين وحقوق الإنسان وقيم الحضارة الغربية. وفيما تتقوّض مقوّمات هذه الديمقراطية حتى حيث صنعت لنفسها عراقة تاريخية، فإنها فقدت ألقَها حتى في الخارج الذي يطمح لها ويتخذها نموذجاً. لكن اختلال المعايير والكيل بمكيالين وضعا هذه الديمقراطية على محك الحقائق، فلا شيء يسوّغ أن تكون الدولة «دولة قانون» في الداخل وفي الوقت نفسه دولة «شريعة الغاب» خلال تعاملها مع شعوب أخرى.


لم يعد للديمقراطية التقدير نفسه بعدما تنافست الدول الغربية ليس فقط لتبرئة إسرائيل من تهمة «الإبادة الجماعية» بل خصوصاً للتغطية على جرائمها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، قامت قيامة الغرب سياسياً وإعلامياً بعد القصف الروسي لمستشفى «أوخماديت» للأطفال في كييف، وكان محقاً كلّ الاستنكار لهذا الحدث والتعاطف مع أوكرانيا والاستهجان لانتهاك «قوانين الحرب». أما ارتكاب إسرائيل مجازر عدة في قطاع غزّة وقصف مخيمات النازحين، وخروج ثلاثة مستشفيات عن الخدمة، وشيوع المجاعة بسبب قطع المساعدات، وأوامر الإخلاء المتتالية للسكان من مكان غير آمن إلى مكان آخر غير آمن (وكأنهم «كرات بشرية على مسرح الدمار والموت» بتعبير أنطونيو جوتيريش)... فلم تعد تحرّك أي ضمائر أو مشاعر، ولا يجد مجلس الأمن جدوى في إصدار قرار آخر لن يُنفذ.

إمّا أن ديمقراطية الغرب «تأسرلت»، وإمّا أن ممارسات إسرائيل هي التطبيق الدقيق للنموذج الديمقراطي الغربي ذي الوجهَين. هذه مسألة ينبغي أن تُحسم، وإلّا فإن الأولَى إقفال الحديث عن «الدمقرطة» و«الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، وبالتالي تكون صحيحة المآخذ الروسية والصينية على الغرب والقيم التي يدّعيها لنفسه. فعندما تتفنن إسرائيل في أساليب الإبادة على النحو الذي شاهده العالم، وعندما تكون هندسة المجاعة تنفيذاً لقرارات حكومتها، وعندما يعترف جنودها بأنهم يقتلون أحياناً أو يحرقون بيوتاً «لقتل الملل»، وعندما يعاود وزير الدفاع يوآف جالانت أخيراً استخدام وصفه للفلسطينيين بـ«الحيوانات البشرية»، فكلّ ذلك وسواه لا يبرهن أن ثمة «دولة ديمقراطية» هنا بل عصابة فالتة أو «قاتل متسلسل» يتمتّع بالحماية ولديه من يزوده بالقنابل الثقيلة، وفقاً للتشبيه الذي ابتكره باسم يوسف.

في سياق هذا المناخ العالمي المضطرب، وربما تتويجاً أو تبريراً له، أسهمت قمة دول حلف شمال الأطلسي في واشنطن في شحذ كل المخاوف والمخاطر وكأنها تذكّر بأن الحروب الجارية إنما تنذر بأن حرباً كبرى وراء الباب. إذ لم يجد أعضاؤها سوى التمترس وراء خيارهم «الوحيد»: مزيد من الأموال وأسلحة أكثر فتكاً لتمكين كييف من مواصلة القتال ضد روسيا، بالنيابة عنهم. لا إضاءة على أي أفكار تتعلّق بـ«سلام» ممكن أو محتمل، ولا حتى بمفاوضات (لا يريدون تكرار تجربتهم مع هتلر)، بل استعدادات لتعزيز القدرات «النووية» وإصرار على التحدّي والاستفزاز على رغم أن قطار الانتصارات الأوكرانية متوقّف منذ عام ونيّف. وبعد فترة تحقّق ومراقبة وضع «الناتو» الصين في السلّة الروسية، كونها أصبحت «عامل تمكين حاسماً» لروسيا، وبذلك أسقط نهائياً محاولات بكين للظهور بأنها نظرياً صاحبة «مبادرة سلام» بينما هي تعمّق «شراكة بلا حدود» مع روسيا في حرب تدور في أوروبا. لذلك لم يعد «الشركاء الآسيويون» (اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا) متردّدين، بل أصبحوا امتداداً لـ«الناتو» باعتبار أن «التهديد الصيني» لا يعد بأي استقرار.

حتى قبل اتفاق بايدن- شولتز على نشر أسلحة أمريكية بعيدة المدى في ألمانيا بحلول 2026، كانت موسكو تعتبر أن حلف الأطلسي «منخرطٌ كلياً في النزاع» الأوكراني، وتخطّط الآن للتصرّف على هذا الأساس، فالرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف يتوعّد بالعمل على «اختفاء» أوكرانيا و«الناتو» معاً. وجاء ردّ الفعل القلق من تركيا التي كانت جدار الصدّ للمعسكر الاشتراكي خلال الحرب الباردة وتحاول الآن بناء موقع مستقلّ لها من دون التخلّي عن عضويتها في «الناتو». لا شك أن التحوّلات على المستويات الوطنية، أياً تكن دوافعها الأيديولوجية، لا تنفكّ تدفع بالقوى الدولية نحو الارتطام.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»