كان حدثًا جللًا وخبرًا مفجعًا وأمرًا محزنًا نبأ وفاة المناضل بقلمه والمحارب بأنوار حرفه وأشواق روحه الأستاذ الكبير محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، رحمه الله، الذي أثبت بوفاته أن القلم الوطني الحر يكسب في النهاية، أيًا كانت التهديدات الظلامية.

شنع المتطرفون على الفقيد ورفاقه في التنوير، وجرموا كلمتهم الحرة المتجردة من الأهواء والأيديولوجيات الفاجرة وكفروها وحكموا عليها بالمروق من الدين والمروق من الفضيلة والارتكاس في الرذيلة، كما أنهم حاكموهم إلى عديد من المقولات التي من أبرزها مقولة قالها أحمد بن حنبل (ت: 241هـ)، التي رواها الدارقطني (ت: 385هـ) حينما قال: «سمعت أبا علي الصواف يقول: سمعت عبدالله بن أحمد، يقول: سمعت أبي -رحمه الله- يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز». «سؤالات السلمي للدارقطني، ص 361، الرياض، ط1، 1427هـ»، فجاءت وفاة الكاتب الكبير والمحارب النبيل أبي عبداللطيف دليلًا على أن «يوم الجنائز» هو شهادة تقدير لكل مخلص في سبيل الكلمة الحرة، وفي سبيل الوطن، وقبلهما في سبيل العودة بالتدين والممارسة الدينية إلى جادة الصواب، وطريق الحق، وجاء المعنى واضحًا جليًا وعكس المقولة التي طالما رماها الظلاميون في وجوه أهل الاعتدال والتسامح، (بيننا وبينكم يوم الجنائز)، فجاء يوم الجنائز ليكون شهادة كبرى لفقيدنا على حب الناس له، وحزنهم الكبير على فقده ومصابهم فيه، وعلى أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وجاء هذا اليوم المحزن ليكون دليلًا لكل السائرين على دروب الوطن والنور والخير، أنهم على الصواب وعلى الجادة، مهما أرجف الظلاميون وأرهبوا بالقول والفعل.

قرأتُ أبا عبداللطيف بعقلين متناقضين، عقل «ضدي التفكير والفكر» في شرخ الصبا والمراهقة، تحت تأثير أحادية الرأي والتوجه، ثم قرأته بعقل حيادي خَبُر تجربة مرة حادة الطعم واللون والرائحة، ثم تنفس أجواء النقاء وحرية القول والتفكير، وما وجدت الرجل اختلف علي في الحالين عبر مجموعة صفات كانت عندي موضع إجلال له وترسيخ لمكانته الرفيعة، كقلم حر، وصاحب كلمة أبية، وكان من أبرز هذه الصفات الوضوح التام والهدف المحدد المباشر والأدوات المشحوذِة شفرتها كحد قاطع على كل ما يمس الوطن والحرية والكرامة، كانت الصفة الأبرز هي وضوح القضية وحسم أمرها وعدم المداهنة فيها أو المجاملة على أي مستوى كانت تلك المجاملة، ومن هنا جاء أسمى ما يميز كلمة الراحل وحرفه، إذ كان في كل كلمة كتبها قضية وهدف وهم وطن وهم جيل بأكمله.


وكانت سمة كتاباته يقينه التام بتلاشي طغمة الظلاميين وانحسار مدهم أمام فضاءات النور الواسعة الفسيحة، وأما نهر الوعي الذي يجرف كل المظاهر الزائفة والدخيلة، فكان همه الأبرز فتح مسارات الوعي بالواقع والوعي بالتاريخ والوعي بالمستقبل، وتحفيز العقل السعودي على التفكير من خلال الوعي بهذه المسارات الثلاثة: (التاريخ والواقع والمستقبل)، من خلال بعد وطني خادم للمجتمع والناس.

أجمل ما رأيت في الراحل أنه لم يكن في يوم من الأيام طرفًا في مواقع الحياد في قضايا السعودية والسعوديين، خصوصًا حينما يتعلق الأمر بمواجهة التيارات والتنظيمات الإرهابية السرورية والإخوانية، وكان مقدامًا حينما يتراجع فرسان المعركة، وهو أفرسهم (فروسية وفراسة)، وكان غير هياب حينما يحجم الشجعان فهو أشجعهم، ومن أجل هذا وذاك دفع ثمنًا باهظًا جراء فروسيته وشجاعته، تكفيرًا وتخوينًا وتشويهًا، وفي النهاية لم «يصح إلا الصحيح».

في حديث مع البروفيسور سعد الصويان أرجع فضلًا كبيرًا لأبي عبداللطيف وبعض أبناء عمه في إقناع الأمير خالد بن سلطان لتمويل العمل على موسوعة «الملك عبدالعزيز آل سعود سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية، دار الدائرة للنشر والتوثيق، الرياض، 1999»، وكذلك تمويل العمل على موسوعة «الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية، دار الدائرة للنشر والتوثيق، الرياض، 2000» وطباعتهما، الذي أشرف عليهما البروفيسور سعد، وهما العملان الضخمان اللذان تجاوزت عدد صفحاتهما 20 ألف صفحة، في 20 مجلدًا للأول، و12 مجلدًا للثاني، وهذا يدل على حجم إيجابية الراحل، وحبه للمعرفة والعلم ولكل عمل وطني نبيل.

كان الراحل شاهدًا على عصره، فأرخت كتاباته بدقة لمرحلة من الصراعات الفكرية العميقة وعاصرت تحولات مجتمعية حادة، استطاع فيها مواكبة المرحلة بفكر نير، وإشعاع عقلانية عز نظيره، صاحبها وطنية حقة، لا تماري ولا تجامل في حق الوطن، ومتطلبات الوطنية والمواطنة، كان محمد آل الشيخ إيماضة نور في سديم معتم، قال كلمته للتاريخ ومضى.