حوار فكري جميل ضمني مع شخصية نبيلة، تطرقنا خلاله للمذاهب الفقهية والعقائدية وللمدارس السلوكية والفكرية، وكان تعليقه أنه يؤمن بـ«إسلام بلا مذاهب»، وكان تعقيبي بأني مؤمن بأنه «لا إسلام بلا مذاهب»، وأن «اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية»، وطال الكلام «مع» و «ضد»، ولم يفسد «الود»، وظل الحوار في خاطري بعد انتهائه، ولم أستطع تجاوزه، لا سيما أن التعليقات المذكورة، يستعملها كثير من الناس، وتستحق الكتابة، عنها ولو باختصار.

لا شك أن موضوع الخلافات الدينية والعقيدية بالخصوص من الموضوعات التي شغلت أذهان المفكرين المسلمين منذ ازدهار حضارتنا الإسلامية والصراع يحتدم عند المتعصبين، ويخف عند المتسامحين، وينعدم عند من يفهم أن هذه الصراعات منشؤها تغايرات شخصية، وخلافات سياسية، رغم أن الإله واحد والرسول واحد والمصادر هي نفسها، والصراعات هنا لا أقصد منها إلغاء الفوارق، فهذا أمر لا سبيل للوصول إليه، بل ومضاد لطبائع الحياة والبشر، ولا دين صالح أو مصلح إلا إذا تقبل الاختلافات والتنوعات، وغير هذا نوع من دغدغة العواطف، ولو كان بصيغة التقارب والتراضي، والتوافق والتصالح، لأن الواقع هو الحَكم، والحكمة هي أن كلًا له مذهبه الذي فرضه عليه تفكيره، والدين واحد، والتنوع مقبول ومتاح ومطلوب، والمهم دومًا «السلام المذهبي»، و«الاعتراف بالآخر»، ومن يحاول «قولبة» الناس يخشى منه أن يحول مجتمعاتهم إلى مجتمعات خاملة، محكوم عليها بأن تظل في مكانها، إن لم تتراجع للوراء.

أتفهم الدعوة للتوحيد العام والوحدة التامة، ولكن في هذا الإطار، إطار عدم إقصاء التنوع، وعدم فرض وحدة مفتعلة تكرس رأيًا واحدًا، وتتعصب له، وتقدس الرموز، وتلقن الكراهية، وتفرق وتطحن وتطعن في المخالفين، وتجرح أي فكر آخر، وتقلد ذلك الفقيه المالكي الذي خاف على ذهاب فقه شيخه الإمام مالك بسبب انتشار مذهب السادة الشافعية وقال: «اللهم أمت الشافعي، وإلا ذهب علم مالك».


أختم بتخوفاتي الكثيرة من الانغلاق في مذهب واحد، وعدم النظر إلى أن الاختلاف مزية وإثراء، وحق مشروع وأصيل قانونًا وشرعًا، وأنه لا حرج في الاختلافات لأنها تعكس ثراء الفكر الإسلامي ومرونته أمام المتغيرات، ولا مشكلة فيها، وأنها حكمة إلهية، ورحمة واسعة، والإسلام أرحب من أن نختزله في تفسيرات واحدة أو آراء متحدة، وعلينا ألا نضيق بالاختلافات المذهبية، بل علينا أن نسعى لتوظيفها وإدارتها لخدمة الإسلام، وفق قاعدة: «اختلف الناس بعد نبيهم، صلى الله عليه وسلم، في أشياء كثيرة؛ ضلل فيها بعضهم بعضاً، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقًا متباينين وأحزابًا متشتتين؛ إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم»؛ نقوم بتفعيلها، لا مجرد ترديدها، ونتخلص سواء كنا مذهبيين أو غير ذلك من التخاصمات والصراعات والحظوات، ونزيد من قناعاتنا في أن الاعتراف بشرعية الاختلافات المذهبية ضمانة أساسية في تحصين المجتمعات من التخوين وأشكاله كافة، وأن حشد الناس في مذهب واحد أو فكر واحد أو مدرسة فقهية أو عقدية واحدة أو «قالب» واحد يخالف كون أن الإسلام دين حواري، في ما بيننا البين، وفي ما بيننا وبين غيرنا، كما أن تقبل المذاهب لا يعني الإلغاء، وحتمًا لا يعني عدم نقدها أو تمحيصها.