إن قضية تعدد الزوجات ليست جديدة. لقد عرفها العصر الوسيط والتمس لها حلولا، وهذ القضية تشدّ اليوم الاهتمام بصفة خاصة، ونظرا لأهميتها رأينا أن نسهم في الحوار من الوجهة التاريخية الإسلامية منطلقين من ميدان اختصاصنا، وهو العصر الوسيط. ولعله يحسن أن نذكر أن هذا العصر كان تعدديا، تعايشت فيه المرأة المسلمة مع نساء ينتمين إلى أديان مختلفة، ولهن أحكامهن وأوضاعهن الخاصة بهن.

إن قضية الزواج والعلاقات الجنسية عامة من أشد القضايا الاجتماعية والفردية تعقدا وإشكالا وحساسية، وهي لا تخضع دائما للعقلانية المتبصرة الهادئة، وهي أيضا قضية تتطور بتطور المجتمعات، وتتغير معطياتها بتغير القيم الأخلاقية، وتختلف باختلاف السلوك الناشيء عن اختلاف الأزمان والأوضاع، وسبق أن أشار ابن خلدون إلى «تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومر الأيام، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال».

لقد عرف العصر الوسيط مشاكل تعدد الزوجات، والتمس لها حلولا لنا عودة إليها. وإلى جانب الزوجات، كان في البيت الوسيطي عدد يزيد ويقل من الجواري اللائي كن يتخذن للخدمة، ويلتحقن بصف الخدم من الرقيق، ذكورا وإناثا، بيضا وسودا، وكن كذلك يتخذن للفراش. وقد يكتفي مالكهن بمعاشرتهن من دون إنجاب أولاد منهن، محافظة على جمالهن وقيمتهن التجارية، مستعملا لذلك أساليب الوقاية المعروفة في العصر، والقائمة خصوصا على العزل. كما قد ينجب منهن، فيصبحن أمهات أولاد يحرم بيعهن، ويعتقن حتما بعد وفاة المالك لهن.


فالبيت الوسيطي إذن كان أكثر تعقيدا وأوسع عددا من البيت الذي أصبحنا اليوم نألفه، والذي يقتصر على الزوج والزوجة والأبناء. لقد تغيرت أوضاعنا، وتطورت عقلياتنا، ولم تتغير الشريعة التي ضبطت أحكامها بفضل جهود فقهاء العصر الوسيط في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة على الخصوص، فكيف عالج القوم قضاياهم؟ وما هي الحلول التي التمسوها لها ؟ وإن في ذلك لعبرة لنا اليوم، لمعالجة قضايانا بدورنا.

يحسن بادئ بدء أن نذكر بتعريف الزواج شرعا، والشروط التي يتم بها قصد وضع القضية في إحداثياتها الأساسية، فنقول أولا إن التشريع الوسيطي مقام على مفهوم الحلال والحرام، بينما تشريعنا العصري يرتكز أساسا، وبدرجات متفاوتة حسب الأعراف المختلفة والسائدة في بلاد العرب والإسلام، على متصوري الإباحة والمنع، أي على الفصل بين القانوني وغير القانوني، أي أن تشريعنا وضعي بدرجات تزيد وتقل، وتصنعه المجالس المنتخبة، بينما التشريع الوسيطي لا يخلو أبدا من بُعد ما ورائي، وهو من صلاحيات الفقهاء في الرتبة الأولى، ومن الوجهة النظرية على الأقل.

إنه من الضروري أن نوضح هذه المفاهيم الأربعة، وأن نعرفها، وألا نخلط بينها، وألا نستعملها في غير محلها، حتى نأمن حوار الصم، وضروبا شتى من اللبس والإبهام، أو التشويش الذي قد يكون أحيانا مقصودا لغايات عدة لا تهمنا في هذا المقام. ولنضرب لذلك مثلين اثنين فيهما الكفاية بين أمثلة كثيرة، لتوضيح المفاهيم وتجنب الخلط بينهما في مصطلحاتنا المعاصرة. إن الخمر مباحة قانونيا عندنا، وفي عديد من البلاد الاسلامية، وهي محرمة بالإجماع شرعا، وتعدد الزوجات «ممنوع» عندنا، وفي اليمن الجنوبي قانونا، وحلال بالإجماع أيضا شرعا. معنى ذلك أنه لا يكاد يوجد اليوم بلد إسلامي يخلو من مقدار خفي أو بارز، يضيق ويتسع، من العلمانية الفعلية، والعلمانية لا تحارب الدين كسلوك فردي واختيار ضميري، وإنما هي أساسا حياد وتنظيم للمجتمع من دون أن يقاس كل شيء بمقياس «الحلال» و«الحرام». ففي مصطلحنا اللغوي العصري يجدر بنا إذن، كي نوضح الحوار، أن نميز بين المنع القانوني والإباحة من ناحية، والحرمة الشرعية والجلية من ناحية أخرى، إذ هذه المتصورات الأربعة في وضعنا الحالي لا يغطي حتما بعضها بعضا في كل الحالات، فالمنع القانوني لا يقيد الحرمة الشرعية، والإباحة لا تفيد الحلية، والعكس بالعكس.

إن الزواج في التعريف الشرعي لا يزيد على أن يكون عقدا من العقود، تصبح بفضله المعاشرة الجنسية حلالا، وهذا ما يجعل كلمة «النكاح» هي اللفظ التقني المستعمل في العقد الذي يتم به الزواج. ويرتكز عقد النكاح على ركنين: الطلب والقبول، وعلى شروط لا ينعقد العقد إلا بها، وهي أساسا إعطاء المهر وإشهاد شاهدين، وفي تفاصيل كل ذلك اختلافات عدة بين المذاهب. هكذا يدخل النكاح شرعيا في باب العقود، ويخضع لأحكامها مع ميزات يختص بها، وسوف نرى كيف فتح ذلك السبيل لحماية المرأة في العصر الوسيط عن طريق ما يمكن أن يضمن بالعقد من شروط.

1986*

* باحث ومؤرخ تونسي «1921 - 2017»