أَحدث هجومُ «طوفان الأقصى» على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 ظواهر عديدة، عربيّاً ودوليّاً. نقتصر هنا على إلقاء الضوء على موقف الغرب العدائيّ تجاه العرب المُسلمين، كما يتجلّى اليوم في تحالفه الكامل مع إسرائيل في حربها الهمجيّة والفاقدة للأخلاق الإنسانيّة في هجومها على قطاع غزّة. يُعتبرُ هذا الموقف من الأمور الثابتة في سلوك الغرب، ويَعني أنّ هذا المَوقف مَعْلَمٌ راسخ ومتواصل في جوهر الرؤية الغربيّة للعرب المُسلمين. فهي حقيقة لا يكاد يقرّ بها الكثير من حُكّام العالَم العربيّ ومثقّفيه، بخاصّة ذوي التعليم والثقافة الغربيَّيْن، لغةً وفكراً، وهو سلوكٌ يشرحه بيُسرٍ عِلما النَّفس والاجتماع اللّذان يَعتمد عليهما هنا منظورُنا ذو الطرح الفكريّ المُختلف الذي تمثّله نظريَّتُنا للرموز الثقافيّة.

يُسمّي الفلاسفة والمفكّرون الاجتماعيّون الإنسانَ كائنا مدنيّاً/ اجتماعيّاً بالطبع. ونريد أن نُحاجِج بأنّ مقولة نظريّتنا تُعلن أنّ «الإنسان كائن ثقافي بالطبع» في المقام الأوّل؛ إذ يصعب من دون ذلك أن يكون هذا الإنسان أصلاً مدنيّاً بالطبع. فالإنسان كائنٌ ثقافيٌّ بالطبع، بسبب مركزيّة ما نسمّيها «الرموز الثقافيّة» في هويّته. وتعني الرموز الثقافيّة تلك السمات الثقافيّة التي يتميّز بها الإنسان عن كلٍّ من الأجناس الأخرى والآلات الحديثة ذات الذكاء الاصطناعي. فاللّغة المكتوبة والمنطوقة والمعرفة/ العِلم والفكر والأديان والأساطير والقيَم والأعراف الثقافيّة هي سمات رئيسة مميِّزة للجنس البشري. واللّافت بهذا الصدد أنّ العلوم الاجتماعيّة المُعاصرة استعملت مواصفاتٍ أخرى للإنسان: كائن اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي بالطبع. فحتّى علماء الأنثروبولوجيا لم يجرؤوا على تسمية الإنسان بالكائن الثقافي بالطبع. يُمكن القول إنّ ذلك يعود إلى هَيْمنة منظور الرؤية الوضعيّة Positivism في تلك العلوم. فروّاد عِلم الأنثروبولوجيا لا يكادون يرون حتّى إمكانيّة دراسة الثقافة، لأنّها في نظرهم شيء ضبابيّ وغامض بطبيعته، أي ليست أمراً ماديّاً. وبالتالي، فهي كأنّها ليست بالشيء الحقيقي المجسَّم والملموس.

علاقة الغرب بالعرب المُسلمين


يحتاج الحديث عن علاقة العرب المُسلمين بالغرب المسيحي إلى الإشارة إلى الخلفيّة التاريخيّة التي ربطت بينهما. فمن جهة، غزا العرب المُسلمون ما يسمّى اليوم إسبانيا والبرتغال، حيث أقاموا حُكمهم وهَيْمَنوا لثمانية قرون. وتوسَّع الأتراكُ المسلمون أكثر في أوروبا. ولا شكّ أنّ المخيال الغربي (تصوُّره وحالته النفسيّة) أصبح منذ ذلك التاريخ متوجّساً وخائفاً وعدائيّاً للمُسلمين من عرب وعجم؛ إذ إنّهم القوّة التي هدَّدتهم في عقر دارهم، وهو عامل يساعد على تفسير العداء الخفيّ الذي يكنّه الغرب إزاء العرب المُسلمين، مُقارَنةً مثلاً بمَوقفه من الهنود والصينيّين.

ومن جهة أخرى، فقد هُزم المسلمون في الأندلس، وطُردوا منها شرّ طردة فسجَّلوا هيامهم بالأندلس ولوعتهم عليها وغضبهم على ما تعرَّضوا له على أيدي المُنتصرين الإسبان المسيحيّين. فولّدت تلك الأحداث المؤلمة عندهم مخيالاً غير صديق للإسبان وللغرب بصفة عامّة، عزَّزته الحروب الصليبيّة والاستعمار الغربي لهم في العصور الحديثة.

معرفة لغة الآخر

ترى نظريّتنا للرموز الثقافيّة أنّ اشتراكَ الأُمم والمجتمعات والجماعات فيها يُسهِّل التقارُب والتحاوُر بينها. فالاشتراك أو التشابه في الرموز الثقافيّة يُعزِّز بالتأكيد الاستعدادَ والتحمُّس والقدرة على التقارُب والتحاوُر على المستويَيْن الفردي والجماعي بين ثقافات المُجتمعات والحضارات البشريّة. هناك ثلاثة عوامل ثقافيّة رئيسة تقوّي من إمكانيّة التقارُب والتحاوُر بين الناس والمُجتمعات:

1ـ فمعرفة لغة الآخر تسهِّل فتحَ أبواب التقارُب والتواصُل بين الأفراد والمجموعات البشريّة. إنّها تأشيرةٌ خضراء visa للدخول من البوّابة الواسعة للاحتكاك به والتعرُّف إليه. ومن ثمّ، فحـوار الثقافات بين العالَم العربي والعالَم الغربي يتطلَّب من الطرفَيْن في المقام الأوّل معرفةَ لغات بعضهما البعض. وهذا العامل اللّغوي ضعيف الحضور والانتشار في المجتمعات الغربيّة على المستوى الشعبي وحتّى النخبوي. وربّما ينطبق هذا أكثر على المُجتمع الأميركي ليس بالنسبة إلى فقدانه معرفة اللّغة العربيّة، لغة العالَم العربي، فحسب، بل أيضاً في ضُعف معرفته باللّغات الأجنبيّة بصفة عامّة.

وعلى العكس من ذلك، فإنّ لنُخب العالَم العربي معرفةً واسعةً ومتمكّـنة بلغاتِ المُجتمعات الغربيّة المتقدّمة، وفي طليعتها اللّغتان الإنكليزيّة والفرنسيّة. أمّا المُجتمعات الغربيّة فليس لها ما يُحفّزها على نطاقٍ شعبيٍّ واسع على تعلُّم لغة الضادّ. وغالباً ما يقتصر الأمر في أغلب الأحيان على تعلُّم بسيط للّغة العربيّة من طَرَفِ عددٍ محدودٍ جدّاً من العُلماء والمُستشرِقين والدبلوماسيّين ورجال الأعمال والاستخبارات وغيرهم من الفئات والأفراد.

2 ـ التعرُّف إلى ثقافة الآخر: لا يقتصر الأمر في العالَم العربي على مجرّد معرفة بعض لغات المُجتمعات الغربيّة كتأشيراتٍ خضراء تسهِّل التحاوُر معها، بل يتجاوز الأمرُ ذلك إلى اكتساب النّخب والطبقات الاجتماعيّة العليا والمتوسّطة في المُجتمعات العربيّة معرفةً لا بأس بها أو متميّزة بثقافة المُجتمعات الغربيّة المتقدّمة وعلومها، بحيث يُصبح البعض، من نُخب المتعلّمين والمثقّفين العرب، أكثر إلماماً ومعرفةً بالثقافة والعلوم الغربيّة من ثقافة وعلوم مُجتمعاتهم. وهو وضع يَجعل الكثيرين من هؤلاء يشكون من عارض الاغتراب الثقافي، والانتساب القويّ إلى الثقافة والعلوم الغربيّة على حساب الثقافة والعلوم الإسلاميّة التراثيّة. وهذا يؤدّي إلى الانبهار بلغات الغرب وثقافته وعلومه، وإلى تحقير التحاوُر مع الذّات وتَجاهُله، وهو ما سمّاه عالِم الاجتماع الماليزي الراحل سيّد حسين العطّاس «العقل السجين». ولعلّ هذا الاغتراب الثقافي يساعد على تفسير ضمور التحمُّس للعروبة والإسلام لدى بعض الحكّام العرب، ما جَعَلَهُم لا يُساندون حركات المُقاوَمة الإسلاميّة العروبيّة ضدّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.

3 ـ الدّين: إذا كان العرب يتفوّقون على الغربيّين في رغبتهم بالتحاوُر معهم بداعي معطيات 1 و2، فإنّ عامل الدّين يُمثِّل هو الآخر قطباً جذّاباً يُشجِّع ويدفع الأغلبيّة العربيّة المُسلمة إلى التحاوُر والتواصُل مع الغرب المسيحي؛ إذ يؤمن العرب المُسلمون بأنّ المسيحيّين هُم من أهل الكتاب، وبالتالي فهُم يؤمنون بعيسى نبيّاً ورسولاً. أمّا بالنسبة إلى موقف أغلبيّة المسيحيّين الغربيّين من الإسلام، فهو موقفٌ سلبيٌّ على العموم. إذ لا تَعتقد الديانة المسيحيّة بنبوّة رسول الإسلام محمّد. وتأتي الرسوم المُسيئة لصورة الرسول محمّد في الدانمارك وفرنسا وحرْق المصحف شهاداتٍ على جَهل كثيرٍ من الغربيّين بالإسلام وعدائهم له. ولا يُمكن، في المقابل، تصوُّر وقوع مثل تلك الإساءات إلى الرسولَيْن موسى وعيسى في أرض الإسلام.

رغبة التحاوُر غير متساوية

المُعطيات السابقة المذكورة تَجعل العرب، من وجهةِ نظريّةِ الرموز الثقافيّة أكثر تأهّلاً وترحيباً من الغربيّين المسيحيّين بالرغبة في التحاوُر. وبسبب هذه الفروق الثقافيّة، يجوز القول إنّ المنظومة الثقافيّة للمُجتمعات العربيّة قد تغيَّرت كثيراً إلى الأحسن في مخيال العرب في العصور الحديثة. وعلى عكس ذلك، لا تَسمح المُعطيات المذكورة بأن نتحدّث عن وقوع تغييرٍ إيجابيٍّ مُشابِه لذلك في مخيال الغربيّين لمصلحة العرب. فالموقف الجماعي في الغرب إزاء العرب لم تَزَل تغلب عليه السلبيّة والاتّهامات النمطيّة والتصوّرات المشحونة بالحقد وفقدان الثقة وحضور الكراهيّة والعداوة، كما يشهد على ذلك موقفه المُسانِد لمُواصلة إسرائيل قتْل المدنيّين من الأطفال والنساء في قطاع غزّة.

استعداد الغرب للصدام مع العرب

إذن، يُضعِف الموقفُ الغربي السلبي من استعداد المُجتمعات الغربيّة للحوار المُتكافئ التلقائي والمتحمّس والنزيه مع المُجتمعات العربيّة؛ بل يَرغب حكّام الغرب في المحافظة على علاقة الغالب بالمغلوب في هذا الحوار. ومن ثمّ، فالمجتمعات الغربيّة الحديثة هي أقلّ استعداداً ومقدرةً، لغويّاً وثقافيّاً ودينيّاً على الدخول في حوارٍ ثقافيٍّ واسعٍ ومُثمِر مع المُجتمعات العربيّة. وفي ظلّ ظروف الجهل المتفشّي في العالَم الغربي باللّغة العربيّة وبثقافة أغلبيّة سكّان العالَم العربي ودينه، فإنّ الطرف الغربي هو الأكثر تأهُّلاً وترشُّحاً لتكوين تصوّراتٍ ومُعتقداتٍ نمطيّة سلبيّة خاطئة حول العرب ومُجتمعاتهم. يرى عِلم النَّفس الاجتماعي أنّ مثل تلك المواقف الجماعيّة تُشجِّع الغربيّين وتؤهّلهم للدخول في صدامٍ مع العالَم العربي، بدلاً من الدخول في حوارٍ نزيهٍ ومُتوازنٍ معه.

الرموز الثقافيّة ومُسانَدة الغرب لإسرائيل

إنّ تحالُف المُجتمعات الغربيّة مع إسرائيل منذ تأسيسها لا يكفي تفسيره بالعوامل الجغرافيّة الاستراتيجيّة التي تجنيها بعض القوى الغربيّة الكبرى من ذلك فقط؛ بل يجب أيضاً إعطاء دَورٍ مركزيٍّ للمنظومة الثقافيّة الغربيّة الحاملة لصداقة ضعيفة نحو ثقافة العالَم العربي وحضارته والمُتوجِّسة منه والمنطوية على كثيرٍ من نقص المودّة له. فالعداء الثقافي الغربي للعرب المُسلمين عداءٌ ذو تاريخ طويل كما رأينا.

فمِن وجهة منظور العلوم الاجتماعيّة، يُمكن القول إنّ العداء الثقافي الغربي للإسلام أصبح مَعلماً في الشخصيّة القاعديّة للإنسان الغربي. فيُعطي هذا الواقع الثقافي مشروعيّةً لسلوكيّات الأفراد والمُجتمعات الغربيّة واستعدادها الكبير لمُسانَدة إسرائيل، ودائماً، على حساب الحقوق العربيّة، وبخاصّة حقوق الشعب الفلسطيني.

حرب أوكرانيا وتجلّي سياسة المكيالَيْن

يُشير تعاطُف الغرب مع أوكرانيا ضدّ الغزو الروسي إلى تبنّيه سياسة المكيالَيْن: غزو الروس لجارتهم أوكرانيا عدوانٌ لا يُغتفر وغزو العراق البعيد عن واشنطن ولندن وحرمان الشعب الفلسطيني من الحقّ في إقامة دولته في أرضه مسألة فيها نَظَر!!!

يعود هذا من منظورنا الفكري المطروح في هذا المقال إلى أنّ المنظومة الثقافيّة الغربيّة غير سليمة ومُتماسكة في عُمق بنيتها الداخليّة. فمن جهة، نادت الثورةُ الفرنسيّة ورَفعت راية حقوق الإنسان في 1789. ومن جهة أخرى، عمل المسؤولون الفرنسيّون عكس ذلك لمّا استعمروا الجزائر وتونس والمغرب وغيرها من البلدان في إفريقيا وآسيا وغيرهما. واليوم يُدافع الغرب عن حقوق الأوكرانيّين بالسلاح والمال وبالخطب، ويصمت هذا الغرب من دون حياء حتّى عن ذِكر حقوق الفلسطينيّين في المقاومة لنيل حقوقهم المسلوبة في فلسطين، ويمدّ إسرائيل الغاصبة بالسلاح والمال وبوسائله الإعلاميّة لكي يزيد اغتصابُها شدّةً لحقوق الفلسطينيّين في غزّة والضفّة، وهذا ما يصدق عليه المثل العربي: «بلغ السيلُ الزُّبى». لقد أَدركت الشعوبُ العربيّة وكثيرٌ من فئات الشعوب الأخرى الوجهَ الحقيقي القبيح للغرب الذي يلخّصه بيتُ الشعر العربي: إذا فعل الفتى ما عنه يَنهى فمن جهتيْن لا جهةٍ أساء.

*عالِم اجتماع من تونس

* ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية.