سبق أن تناولتُ هذا المفهوم في كتابي الذي صدر في العام 2019 بعنوان «علم الجهل: كيف نفهم وضعنا السياسيّ في ضوء الأكنوتولوجيا؟»، وإذ أعود إليه مجدّداً، فمن أجل إثارة جملة من القضايا الفكريّة والسياسيّة ذات الصلة، ولاسيّما أنّ العالَم يمرّ بمرحلة بالغة الدقّة في تاريخه الحديث، من دون التحرُّر من ثقل الماضي الموغل في القِدَم. وقد طفتْ على السطح سلوكات سياسيّة ظنَّ المفكّرون أنّ الزمن قد عفا عليها وطواها خلفه. وعاد النقاشُ ليحتدَّ مُجدَّداً واضعاً بعض المسلّمات موضعَ مُساءلة وتشكيك، آخذاً مَظهراً مُتشظّياً بالكاد تتجلّى حقائقه إلّا للمُلاحِظ الحصيف.

إستراتيجيّات التضليل

ما هي الأكنوتولوجيا؟ وما علاقتها بالإبيستيمولوجيا؟ ومع أنّ كلا المفهومَيْن ينفصل عن الآخر من حيث الاختصاص، إلّا أنّهما يتّصلان عبر جسر المنطق، وينطويان في إطار نظريّة المعرفة. وقد شاع مفهوم الإبيستيمولوجيا قَبل الأكنوتولوجيا بقرنٍ أو أكثر. وإذا كانت الإبيستيمولوجيا خطاباً حول العِلم، وتنطلق من السؤال التالي: ما هو العِلم؟ فإنّ الأكنوتولوجيا خطابٌ حول الجهل، وتنطلق من السؤال التالي: ما هو الجهل؟


الأكنوتولوجيا، أو عِلم الجهل، عِلمٌ يتغيّا دراسة النّتاج الثقافي للجهل. وقد صاغَ هذا المصطلح مؤرِّخ العلوم روبرت بروكتر في العام 1992، ومنَحه رؤيةً جديدة لدى تيّار تاريخ العلوم وجَعَلَ من الجهل ذاته موضوعاً للدراسة. بدلاً من ذلك السؤال التقليدي، ما هو العِلم؟ (السؤال الكلاسيكي للإبيستيمولوجيا؟) أو ما هي الظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة لمَعرفتنا؟ (السؤال الكلاسيكي للسوسيولوجيا وتاريخ العلوم)، انطلقَ هذا المؤرِّخ من السؤالَيْن التاليَيْن: كيف ولماذا «لا نَعْرف ما لا نعْرف»؟ بيدَ أنّ الشروط مُتاحة من أجل تحصيل معرفة موثوقة ومأمونة الجانب. ووفقاً لهذا المؤلِّف، فإنّ عِلم الجهل ليس دراسة الجهل فقط، ولكنّه يعني أيضاً دراسة المُمارسات التي تَسمح بإنتاجه.

يتعلّق الأمر بأن ننظر إلى الجهل ليس بوصفه أمراً حتميّاً فقط، أو كمحصّلة ضروريّة بين أولويّات برامج البحوث لدينا، ولا حتّى كفشلٍ جزئيّ للنسق التعليمي، كما يريده نموذج «الإفلاس»، ولكن أن ننظر إليه بوصفه ناتجاً أحياناً عن فعلٍ ما.

يُمكن إفراز الجهل من كلّ العناصر، من خلال استراتيجيّات التضليل، والرقابة، أو يُمكن صيانته من خلال استراتيجيّات الطعن في صدقيّة العلوم ومن خلال فاعلين، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات، أم مؤسّساتٍ، أم جماعات ضغط، أم دولة...؛ وإذا كان عِلم الجهل هو العلِم الذي يَعرف الإنسان بمقتضاه مَواطِن جهله، نَجِد في الطرف المقابل جهاتٍ مختصّة ومتمرِّسة في تصنيع الجهل وتغليفه بغلافٍ لامع يوحي لمُستهلِكه أنّه عِلم، ويُمكننا أن نصفَ هذا الفعل بعِلم التجهيل.

أن نصوغَ السؤال، يعني أنّنا نَفتح بالتالي آفاقاً غير مطروقة في مجالاتٍ متنوّعة في فضاء صناعات السلع الاستهلاكيّة المُتحايلة على معايير الجودة، وقضايا الأيكولوجيا، وهجرة الخبرات من المستعمرات إلى الميتروبولات، وبثّ مشاعر الكراهيّة بين الشعوب.

أن نصوغ السؤال في مجال الفكر والسياسة لدى النّخب العربيّة والنّاطقة باللّسان العربي، يعني أنّنا سنعرف لماذا لم نعرف أسباب تخلُّفِنا وسنَعرف كيف لم نَعرف، ومن ثمّة سنعرف أنّ قسطا وافراً ممّا كنّا نعتقده عِلماً كان في حقيقته أسوأ من الجهل.

الجهل أساس الفساد

الجهل أصل كلّ الشرور كما قال أفلاطون، وبسببه ينجم الثراء الفاحش والفقر المدقع بشكلٍ محايث، وينجم الطغيان والخضوع بشكلٍ محايث، وبسببه قد ينجم الاستبداد أو الفوضى. الجهل هو أساس الفساد وعدوّ الإبداع/ الخلق، وهو أساس الفساد السياسي، والمالي، والفكري والروحي، والسلوكي والأيكولوجي.

يُجمِع كلّ المشتغلين في الحقول المعرفيّة على أنّ المعضلة الكبرى التي تُهدِّد المُجتمعات، أمنيّاً وتنمويّاً، وتَحرمها حقَّها في التطوُّر، بل تحرمها من الاضْطلاع بمسؤوليّاتها وواجباتها تجاه فهْمِ شروط التطوُّر عبر الاستعانة بالمُجتمعات المتحضّرة، هو أنّ نخب هذه المُجتمعات لم تتحرَّر من الجهل. وهذا هو العامل الأوّل الذي يجعل المجتمعات التي لم يتأسّس فيها عِلم الجهل تستمرّ رازحةً تحت أوهام المعرفة، لأنّها لم تتمرَّس بالعلم الذي يَكشف لها مَواطن جَهلِها.

بالنسبة إليّ، قال سقراط، كلّ ما أعرفه هو أنّني لا أعرف شيئاً، وهو الذي اشتهرَ بقوله: اعرفْ نفسكَ بنفسِك. وقد لاحظَ سقراط أنّ الناس يعيشون مغمورين في ظلمات الجهل، بينما يتوهّمون أنّهم يعرفون كلّ شيء، فلا يتردّدون في الإفتاء في أيِّ شأنٍ، وإصدار الأحكام على أيِّ أمر، وبالتالي يعملون على تعميم الجهل والجهالة.

لم يكُن سقراط يدّعي الحكمة، بل كان يتظاهر بالجهل، ويطلب من الآخرين أن يسعفوه بما لديهم من معرفة، فيوقعهم في الفخّ. ومن هذه الوضعيّة التي يورِّطهم فيها، يَضعهم أمام جهلهم وجهاً لوجه، ومن ثمّة يُحرِّضهم على التعلُّم.

يرى عددٌ من الفلاسفة والمفكّرين أنّ تقدُّم العِلم يَحدث من خلال صراعٍ مستمرٍّ مع الخطأ؛ فالحقيقة العلميّة خطأ تمَّ تصحيحه، فليس ثمّة قيمة كبيرة لتلك الحقيقة التي تَظهر منذ البداية واضحةً ساطعةً متميّزة عن كلّ ما عداها؛ بل إنّ الخطأ كامنٌ في قلب الحقيقة عينها.

وكان تشارلز ديكنز قد كتبَ في العام 1848، مُتحدّثاً عن صرامة القضاء مع الأطبّاء غير الأكفّاء وتعويضهم لمرضاهم الذين يتسبّبون لهم في عاهاتٍ مُستدامَة، مُنبِّهاً ومُتسائلاً عن مصير مئات الآلاف من العقول التي شوَّهتها إلى الأبد الحماقاتُ الحقيرة التي ادَّعت تكوينها. ويعلِّق «توماس دوكونيك» Thomas De Konink الذي أورد ملاحظة ديكنز، في كتابه «الجهل الجديد ومشكلة الثقافة»، قائلا: «والحقارة المجرمة تتعمَّم اليوم وتَخترق فضاءَ كلّ مكان، والعقبة الرئيسة أمام «إصلاحات» الثقافة... هي هذا الجهل الجديد الذي يؤثِّر في ثقافة محيطنا».

المنطق أو اللّوجيكا: من الثالث المرفوع إلى الثالث المشمول

يدلّ المنطق في الوقت نفسه على «العقل» و»اللّغة» و»البَرْهَنة والاستدلال». وفي مُقاربةٍ أولى، هو دراسة القواعد التي يجب أن تَحترم جميع الحجج الصحيحة. ثمّة مَن يقول إنّ أوّل مَن استخدمَ هذا المصطلح هو زنوكراط (396 - 314 ق. م). بينما هناك مَن يقول إنّ المصطلح ظهرَ للمرّة الأولى في كتابات ديموقريط (460 - 371 قبل المسيح)؛ لكن ما الذي كان يعنيه مصطلح «لوجيكا» لدى ديموقريط؟ أرسطو تحدَّث أكثر عن الدياليكتيك، وقد سجَّل أنّ مَن أبدعَ الديالكتيك هو زينون الإيلي (430 - 490)، وكان يُطلق عليه فنّ التفكير المسموع الذي تمارسه النّخبة. وهو دراسة مناهج الفكر وطُرق الاستدلال السليم، وفي المقام الأول يدرس في تخصّصات الفلسفة والرياضيّات والسيميوطيقا وعِلم الحاسوب. ويُعتبر أرسطو أوّل مَن جَعَلَ من المنطق عِلماً قائماً بذاته، وسُمّيتْ مجموعةُ بحوثهِ المنطقيّة «أورغانون»، فكان القياس في نظر أرسطو هو صورة الاستدلال. لكنْ بقيام النهضة الأوروبيّة ونهضة العلوم الطبيعيّة، أَصبح المنطقُ عِلماً مختلفاً نوعاً ما عن منطق أرسطو؛ فظهرَ منطق الاستقراء الذي كان رائده فرانسيس بيكون واستكمله بعد ذلك جون ستيوارت ميل. هناك أيضاً جانب المنطق الرياضي الذي ابتدأه ليبنتز وعدّله برتراند راسل الذي ربط الرياضيّات بالمنطق وجَعَلَها امتداداً له.

ليس هناك طريقة واحدة في التحليل المنطقي، بل ثمّة أنواع تمَّ اكتشافها عبر التاريخ، ولاسيّما في العصر الحديث. وكلّ طريقة تقوم على معايير معيّنة يتمّ بموجبها البناء المنطقي العامّ للنظريّة المنطقيّة. وطريقة التحليل المنطقي هي منهجٌ رياضي وفلسفي مُهمّته تحليل القضيّة موضوع البحث وإضاءة التناقضات التي تكتنفها بهدف الوصول إلى نتائج منطقيّة يتمّ استنباطها والبرْهَنة عليها.

ومع شيوع ميكانيكا الكمّ، في ثلاثينيّات القرن الماضي، ولأسبابٍ ذات صلة بحقل الفيزياء الكوانتيّة، برزتْ أطروحةٌ جديدة تقول بـ «منطق الكم». وقد مهَّدت الفيزياء الكوانتيّة العقولَ لتَقبل منطق الثالث المشمول.

وفي جميع الحالات، فإنّ كلّ الاجتهادات العلميّة ذات الصدقيّة التي نشأت حول اللّوجيكا، منذ أرسطو إلى الفيزياء الكوانتيّة، تصلح كقواعد سلميّة وعلميّة لفضّ الخلافات والنّزاعات وسوء الفَهم. وإنّ الثالث المشمول لا يُبطل صلاحيّة الثالث المرفوع، وكلّ ما في الأمر أنّ هناك قضايا توزَن بميزان الذهب وأخرى بأيّ شيء طالما لم يتأسَّس لها مُحامٍ يتمتَّع بكفاءة القياس العقلي.

وحتّى نفهم المنطق ببساطةٍ لا تتعارض مع العُمق، نقول إنّ المنطقَ واحدٌ ومتعدّد: واحد من حيث كونه آلة قياس، ومتعدّد من حيث وحدات قياسه. والقضايا موضوع القياس وكلّ ما يتّصل بعمليّة القياس المُتّفق عليها مسبقاً. لنأخذ مثلاً وحدات قياس الطول، فهي مقدار محدَّد لكميّةٍ محدَّدة ومُعتمَدة بموجب اتّفاقيّة أو قانون، تُستخدم معياراً لقياس النَّوع نفسه من الكميّة. لقياس الطول مثلاً، نَجد المتر والسنتمتر والكيلومتر، وهي كلّها وحدات قياس. وإذا أردنا أن نقيس شكل مربّع على ورقة، نستعين بمسطرة صغيرة. أمّا في حالة مسافة بين مدينة وأخرى فهنا الأمر يختلف، والأمر ينسحب على قياس الكتلة، فوحدات قياس في سوق الخضار ليست هي وحدات قياس صائغ الذهب.

كذلك هو حال قياس القضايا. فعندما يتجادل شخصان حول قضيّةٍ ما، ويَصف أحدهما الآخر أنّ رأيه في القضيّة أو حُكمه عليها خاطئ، وليس منطقيّاً، فلينظرا بأيّ منطقٍ يتجادلان ويقيسان به حقيقة القضيّة. إنّ الاتفاق على وحدة القياس أمرٌ حاسمٌ في القياس المناسب لأيّ قضيّة. وبما أنّ قياس القضايا غالباً ما يسوده الخلاف، نجد أنّ المتجادلين حول القضيّة لم ينتبهوا أنّهم لم يتّفقوا على وحدة القياس. وفي غياب هذا الاتّفاق يحدث ما يسمّى بالجدل البيزنطي، وفي غياب العقل يسود منطق الأهواء.

إنّ عِلم الجهل يُلزمنا بأن نَدرس القضيّة من جوانبها كافّة، ونحيط بها علماً من حيث حيثيّاتها، وتفاصيلها وثغراتها، وأن نُعِدّ العدّةَ المنطقيّة للدفاع عن هذه القضيّة وإلّا كانت مرافعتنا ضرباً من العبث، وكانت الخسارة مدخلاً لخساراتٍ أخرى.

* شاعر وباحث من الجزائر

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.