اجتاحني أسف منفعل بعد زيارة أدونيس لبلدنا قبل أشهر، وأجلت الحديث حتى أقرأ المسألة بعقل بارد، فلقد أسفت آنذاك على بعض المثقفين والأكاديميين وهم يتحدثون عن كتابه «الثابت والمتحول» في وسائل التواصل بمجانية عجيبة تصادر حتى التزامه العلمي في هذا الكتاب، عندها تذكرت أبا حنيفة مع محدثه وقلت في نفسي: «آن لشيخ التسعين علي أسبر الملقب بأدونيس أن يمد رجليه» بين هؤلاء فقد أدركت أنهم لم يكلفوا نفوسهم عناء قراءة الكتاب ولو بالتقليب السريع إذ ورد في «الثابت والمتحول/أدونيس، ج1، ص12» أن أصل الكتاب رسالة دكتوراه ناقشها أساتذة كبار وحصل بموجبها على مرتبة الشرف الأولى بالإجماع، بل لم يكلفوا أنفسهم قراءة ما أشار إليه أدونيس من مضمرات الحداثة والتجديد الموجودة في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمه الله، الذي وصفه بالإمام، إضافة إلى حياده الموضوعي في التساؤلات المطروحة عليها «الثابت والمتحول/أدونيس، ج3، ص77»، فيا لخيبة الإنصاف على عقول لا تزال تعيش أنساق الغفلة تستمدها من مذاكرتها العمياء الصماء لكتاب «الحداثة في ميزان.. /الصحوة» عاجزة عن استنقاذ نفسها باستذكار «اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية/ برهان غليون».

الحداثة قانون طبيعي في الحياة اسمه «التغير» بين قديم وجديد، والجديد نوعان: فجديد حداثي/خلاق مبدع، ومثاله أبو تمام في زمنه إذ كان أكثر حداثة من بعض شعراء زمننا هذا، والنموذج الثاني: جديد غير حداثي/ تقليد للسابق (نبيذ قديم في قنان جديدة) ولهذا يرى بعض الحداثيين في «أحمد شوقي» (نبيذًا قديمًا في قنان جديدة).

أما «التقدم» ــ من وجهة نظري ـ كنمو لولبي رأسي صاعد للأعلى فهو قد يرتبط بالحداثة ما دامت (تراكمًا كميًا يحدث تغير نوعي «فإن كانت الحداثة مجرد» تراكم كمي يحدث تغيرا شكليا فهي أيضاً (نبيذ قديم في قنان جديدة) وهذا ما يعاني منه معظم العالم العربي، رغم الاعتراف العالمي بالاستقلال وإنشاء دولة حديثة... الخ.


ربما من الأسباب هو انعكاسات ما في الدول الغربية علينا في العالم العربي من تكتيكات البرجوازية عندهم ضد «التغير النوعي»، فالبرجوازية الغربية تنتج أيضاً مفكريها وأدباءها الذين يخرجون كتباً متنوعة «فكراً وأدباً وفلسفة» نرى في مكوناتها البنيوية سمات أنجبت لنا على المستوى العربي مثلاً ما سموه «النقد الثقافي/ الغذامي» ومن أهم سمات «البرجوازية الفكرية غربياً وعربياً» أنها: «تبريرية، لا عقلانية في جوهرها، مثالية تتعامى عن مادية العلم، سكونية تتعامى عن جدلية العلم، محافظة تتعامى عن راديكالية العلم، متنكرة لتراثها الراديكالي/ راجع جدل الوعي العلمي، هشام غصيب ص135» وينتج عن ذلك (حصر العلم في مجالات ضيقة كرافد للإنتاج الرأسمالي/الاستهلاكي، الحفاظ على مكتسبات الطبقة النفعية الانتهازية، ترويض العلم وعزله عن باقي الممارسات الحضارية الاجتماعية، ربط قيمة العلم بفائدته العملية بدلاً من ربطه بكونه النشاط البشري الذي يؤدي إلى إنتاج المعرفة والكشف عن الحقيقة في مستوياتها المختلفة.../ راجع جدل الوعي العلمي، إشكالات الإنتاج الاجتماعي للمعرفة، هشام غصيب ص 136) ولهذا فمقال الغذامي في 2010 «الليبرالية الموشومة» وما فيه من انتقاص لطه حسين، ومحاولته في المقال أن يكون وسطيًا بسماجة وانتهازية فاقعة اللون، لأنها آنذاك (2010م) كانت وسطية ما بين العين والمخرز، وحقيقتها بعد انكشاف غبارها أنها ليس إلا «تكتيك برجوازي» في إعادة التموضع.

وأمثلة هذه النتائج قديمة على أرض الواقع، نكاد نستشف دباقتها اللزجة على لسان شخص ينتمي للحداثة بالمعنى النفعي الانتهازي لنرى مفهوم «التعددية الثقافية» في أقبح صورة عند المستشرق «سنوك هرخرونيه/1857 ــــ 1936» مدافعاً عن ضرورة بقاء «تجارة العبيد» ووجوب احترامها في جزيرة العرب!!! لأنه «يراها مؤسسة متجذرة اجتماعياً ولها أصولها القرآنية، التي يصعب إلغاؤها بجرة قلم، أو بمطالب نزقة من الغربيين»/ راجع محمود عبدالغني صباغ: دراسة بعنوان «خمسون عاماً على إبطال الرقيق: قصة تجارة العبيد في الحجاز 1855 ــ 1962»... وللحديث بقية.