قَبل الجواب عن السؤال يبقى ثمّة تساؤلٌ أهمّ: ما هو البديل عن الحوار؟ وهل الخصام والحروب والقلاقل والاضْطرابات هي الحلّ والبديل الوحيد المتوافر أمامنا؟
لعلّه يلزمنا أن نوضح بادئ ذي بدء أنّ منهج الحوار لم يَعُدْ ضرورةً دوليّةً أو شرقَ أوسطيّة فحسب، بل بات ضرورةً كونيّة، ذلك أنّ منهج الحوار أضحى مَطلباً إنسانيّاً وحضاريّاً في عالَمٍ سقطتْ فيه الحواجز وتشابكتْ فيه المصالح وزادت احتياجات البشر بعضهم لبعض، وأصبح الشأن الداخلي خارجيّاً بطريقةٍ أو بأخرى، والخارجيّ تحَوَّلَ ليؤثّر على سَيرِ الحياة الداخليّة، وباتت فكرة الاستغناء عن الآخر غير مُمكنة في عالَمٍ تشابكت فيه الخيوط وتداخلت الخطوط. وعليه، فإنسان القرن الحادي والعشرين لا يَجد أمامه سوى مَنهجٍ من اثنَيْن، فإمّا المنهج الحواري التفاهمي العقلاني الذي يتجنّب الصدام ويُحاول توسيع مساحات التفاهُم بالتركيز على الإيجابيّات المتحقّقة وإضاءة أوجه الشراكة النّافعة بين الأديان والثقافات والحضارات وتقليص أوجه الخلافات والتعارُض. وأمّا المنهج الثاني فهو التصادمي التحريضي الاتّهامي العدائي المُعتمِد على توظيف الدّين في الصراعات السياسيّة وإحياء النّزاعات العصبيّة واستدعاء الروح العدائيّة التاريخيّة وتصوير الآخر على أنّه العدوّ المتآمر على الدوام وعليه تَجب كراهيّته وعداوته. هل للحوار جذورٌ فقهيّة قرآنيّة؟
في حوار الذّات الإلهيّة مع إبليس كما وردت في سورة «الأعراف» الآيات من 10 إلى 24، وفي سورة «الحُجُرات» الآيات من 15 إلى 40: نَقرأ في القرآن الكريم: «ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسَجدوا إلّا إبليس لم يكُن من الساجدين، قال ما منعك ألّا تسجد إذ أمرتُك قال أنا خير منه.. خلقتني من نار وخلقته من طين، قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكّبر فيها فاخرج إنّك من الصاغرين، قال أنظرني إلى يوم يُبعَثون، قال إنّك من المنظَرين، قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم، ثمّ لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين، قال اخرج منها مذؤوماً مدحوراً لَمَن تبعك منهم لأملأنّ جهنّم منكم أجمعين»... هل من سندٍ شرعي فقهي أكثر من تلك الآيات وضوحاً ونصاعةً؟
الجليّ للبيان والواضح للعيان أنّ الحوار القرآنيّ السابق للعزّة الإلهيّة مع إبليس الرجيم يُبرِز حقائق إيمانيّة كالثواب والعقاب والخير والشرّ والإيمان والكفر. وما كان لهذا الحوار أن يقوم من دون وجود الآخر. في أسباب سوء الفَهْم
على أنّ التساؤل الواجب التوقّف عنده في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين يتمثّل في البحث عن الصورة السلبيّة التي يحملها كلُّ طرفٍ ضدّ الآخر، وما هي أسبابها، وكيف يَنشأ حوارٌ صادق دافِع للإيجابيّات، ومُقلِّص للسلبيّات في قادمات الأيّام؟
في هذا السياق، يُمكننا قطعاً أن نُشير إلى أنّ ظلام الأصوليّات الدّينيّة التي ملأت الساحات العالَميّة في النصف الأخير من القرن المُنصرِم وتجاوزت الأديان السماويّة إلى العقائد الوضعيّة قد أثّرت بالسلب على مسيرة الحوار، وبات الآخر متحفّزاً لمَن عاداه، وظهرتْ على السطح نظريّاتُ الصدام، ومن ثمّ تقسيم العالِم كما فعلَ صموئيل هنتنغتون إلى معسكرَيْن إسلاميّ كونفوشيوسيّ في مُقابِل معسكرٍ مسيحي يهودي، أي أنّ الغرب هُم في مُواجهةٍ حتميّة مع الشرق. وقادَ هذا الفكر إلى حروبٍ ظلاميّة في أفغانستان والعراق، وإلى تجذير الكراهيّة وصعود الراديكاليّات من جديد، وباتت الإشكاليّة الحقيقيّة تتلخّص في طريقةِ فهمِ كلّ طرفٍ لدينِ الآخر وثقافته، تلك التي تتحكّم فيها عواملٌ متعلّقة بالتكوين النفساني والتكوين الثقافي والموروث المُجتمعي، وكلّ هذا يتطلّبُ من الأطراف كافّة مُراجعة تصوُّراتهم النمطيّة التاريخيّة عن الآخرين بإعادة النّظر في المناهج التربويّة والتعليميّة وإعادة قراءة وتحليل وتفكيك الخطابَيْن الثقافي والدّيني، ثمّ التاريخي والإعلامي من أجل تنقيتهم من بذور الغلوّ والكراهيّة.
وفي هذا الإطار، يبدو واضحاً أنّه من واجبنا جميعاً أن نسعى إلى تعليمٍ دينيّ يحتضن الإنسان لكونه إنساناً لا لكونه مسلماً أو مسيحيّاً أو يهوديّاً، بوذيّاً أو هندوسيّاً، ويؤكّد على حقوقه وكرامته ومصداقاً لقوله تعالى: «ولقد كَرَّمنا بني آدم»، وكذلك العمل على إزالة الركام الثقيل من سوء الفَهْم وإساءة الظنّ وأوجه التشكيك والارتياب والتشويه لدى كلّ طرف تجاه الآخر. وقد ساعد على تضخيم هذا الركام السيّئ أصحابُ السياسات العدوانيّة والأهواء والمصالح من جانب، وكذلك أصحاب المنهج التصادمي لدى كلّ دين من جانبٍ آخر، وعبر استغلال وسائل الإعلام والمنابر الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة لترويج الصورة العدائيّة لكلّ طرف ضدّ الآخر من أجل أهداف سياسيّة وأيديولوجيّة.
وإذا كان هذا هو واقع حال الكرة الأرضيّة والشرق الأوسط منها في القلب، فهل نَرفع الرايةَ البيضاء ونَستسلم للنظريّات التي تسعى إلى تحقيق ذاتها بذاتها، حتّى ولو كانت من قَبيل النبوءات الكاذبة، وبذلك نضحي مُفرِّطين في الأمانة الأدبيّة والمسؤوليّة الأخلاقيّة والروح الإيمانيّة تجاه أوطاننا وأجيالنا المقبلة؟ أم نمضي في طريق الحوار مهما كلّفنا من جهد جهيد لتصويب العقول وصولاً إلى أرضيّةٍ مُشترَكة تُخَفِّف من أسباب التوتُّر وتعمل على إزالة ذلك الركام وتُساعد على تفعيل القواسم المُشترَكة وإزالة الفجوة والصورة السلبيّة بين أبناء المنطقة؟
الثّابت أنّ ما يُعرقل الحوار بين البشر هو أنّ كلّ واحد منهم يُصِرُّ على أن يبدأ الحوار مع الآخر من نقطةٍ لا يُمكن تحقيق مبدأ الاشتراك فيها. ففي حوار الحضارات، يبدأ الحوار من منطلقٍ دينيّ، وذلك استناداً إلى أنّ كلّ حضارة إنّما تأسَّست على أرضيّةِ دينٍ من الأديان، والنّاظر في الدّين يَجده عقائد وعبادات ومُعاملات ثمّ نسقاً من القيَم.
وإذاً، فالحوار محمودٌ في المعاملات الحياتيّة والشؤون الثقافيّة والاقتصاديّة عبر قنوات الحوار المُختلفة، فإنّه من لهو الحديث الكلامُ عن الجدالات العقائديّة؛ ذلك أنّها من المُطلقات التي لا تَقبل القسمة في حين تبقى الخيرات الأرضيّة قابلة للتشارُك بين البشر. هل من علاقة بين الحوار والاستقرار والتنمية والسِّلم؟
بالقطع نعم، ذلك أنّ الحوار يعني المعرفة، إذ يساعد عليها ويُمهّد الطريق للتنوير والذي هو جزء لا يتجَزَّأ من التقدّم والمساعدة على نهضة الفكر والعالَم، وهو من أهمّ الأساسات التي بُنِيَتْ عليها الدول الكبرى والنهضة في أوروبا. ولا شكّ أنّها في البداية بُنِيَتْ على النهضة العربيّة سواء كانت إسلاميّة أم مسيحيّة.
قضيّة الحوار أَصبحت في عالَم اليوم قضيّة مُلِحّة على جميع المستويات؛ فنحن نعيش في عصرٍ تشابكت فيه المصالح وتعقّدت فيه المشكلات على نحوٍ لم يسبق له مثيلٌ. ومن هنا يمكن القول إنّ الحوار قد أَصبح ضرورةً من ضرورات العصر للتغلُّب على المشكلات الواقعيّة في عالَمنا. والقضايا الدينيّة تُعَدُّ جزءاً لا يتجزّأ من المُشكلات الواقعيّة لعالَمِنا، بل تُعَدُّ القضايا الدّينيّة في كثير من الاحيان بمثابة الخلفيّة لبقيّة المشكلات لِمَا للدين من تأثيرٍ عميق قي نفوس الناس.
أيُّ إسهامٍ تقدّمه الدّيانات إلى ثقافات العالَم للتصدّي للتأثيرات السلبيّة لظاهرة العَوْلَمة الآخذة بالانتشار سريعاً؟ الشاهد أنّه فيما كثيرون مُستعدّون للإشارة إلى الخلافات بين الديانات والتي يُمكن الكشف عنها بسهولة، نَجِدُ أنفسَنا كمؤمنين أمام تحدِّي الإعلان بوضوح عمَّا لدينا من قواسم مُشترَكة. والمقطوع به أنّ درب الحوار ليس سخاءً رخاءً على الدوام. وقد تبدو في بعض الأحيان الخلافات التي نعالجها في الحوار الدّيني المُشترَك كحواجز، ومع ذلك، فهي لا تقتضي تعتيم المعنى المشترك للمخاوف الوقورة واحترام الطّابع الجامِع والمُطلَق، والحقيقة التي تدفع بالدرجة الأولى المؤمنين إلى إقامة علاقات في ما بينهم الواحد مع الآخر.
إنّه اقتناعٌ مُشترَك بأنّ الوقائع المُتسامية تَجِدُ مصدرَها في الكلّيّ القدرة وتَحمِل بصمات الله الذي يُمجِّده المؤمنون الواحد تجاه الآخر، وأمام المنظّمات، ومُجتمعنا، وعالمنا بهذه الطريقة لا تغني الثقافة فحسب، بل وتصقلها، حياة أمانة دينيّة تُردِّد صدى حضور الله القويّ وتشكِّل ثقافةً لا تَعرف حدودَ الزمان والمكان، إذ تغذّيها أساساً المبادئ والأعمال المُتأَتِّية عن الإيمان.
الحوار وأهدافه
هل مِن بلْورةٍ ولو نسبيّة للأهداف التي يسعى الحوار بين أتباع الدّيانات والحضارات إلى تحقيقها؟ ربّما تكون هذه بعضاً منها:
التعايُش المُشترَك والسلمي بين جميع البشر.
لا يتمّ هذا إلّا بتوضيحِ بعض الحقائق المهمّة لكي يدرك كلُّ شخص أنّ الآخر أيضاً لديه الحقّ في إيمانه ولو كان جزئيّاً أو يختلف عن الآخر.
التعاون معاً ضدّ الإلحاد المُعاصِر وكلّ المذاهب التي تَجعل من الإنسان سلعةً معروضةً للبيع والشراء.
مُواجَهة النظريّات والأفكار التصادميّة المنطلِقة من أيديولوجيّاتٍ علمانيّة متطرّفة.
عبادة الله وطاعته وخدمة الأوطان بحبّ ومَوَدَّة.
التعاون والتضامُن لخدمة المُجتمع في سائر أحوال اليُسر والعُسر.
عقبات في طريق الحوار
والمؤكَّد أنّ هناك كذلك عقبات كؤود في طريق الحوار ونشير هنا إلى ثلاثٍ منها، وهي:
مقوّمات تاريخيّة وسياسيّة نَتجت عن صراعاتٍ وحروبٍ بين طرفَيْ الحوار، والإسلام والغرب لم تَنْتَهِ حتّى وقتٍ قريب مثل الحروب الصليبيّة وحرب ما سُمِّيَ بالتطهير العِرْقيّ في جمهوريّة البوسنة والهرسك، وكذلك موقف الغرب غير المنصف من القضيّة الفلسطينيّة.
معوّقات تأويليّة عند بعض أتباع الديانات تتمثّل في عدم اعتراف أحدهم «بسماويّة» الآخر.
معوّقات فرديّة تتعلّق بمدى أحَقِّيّة الشخص المُشارِك في الحوار في الحديث باسم دينه واعتبار نفسه ممثِّلاً للقاعدة العريضة لهذا الدّين أو ذاك.
هل مِن خلاصة لما تقَدَّمَ؟
يُمكننا القول إنّ ثقافة الحوار وثقافة السلام متلازمتان، وربّما وُجب علينا أن نتعلَّم نحن أهلَ الشرق الأوسط والمنطقة العربيّة من الغرب بخاصّة بعد الحرب العالميّة الثانية، الاهتمام بقضيّة السلام، وأنّ الحوارَ ما هو إلّا وسيلة للوصول إلى هذا الهدف الأسمى في المُجتمع والذي نسمّيه بالتعايُش السِّلْميّ؛ ذلك أنّه إذا وُجِدَ السلام بين الأديان، فلا شكَّ سيحِلُّ بين الإنسان وأخيه الإنسان.
*كاتب وإعلامي من مصر
* ينشر مع دورية أفق الإلكترونية.