بينما يتّجه التطوُّرُ الإنسانيّ نحو آفاقٍ مُستجدَّة طارحاً رؤىً وقيَماً وتحدّياتٍ غير مسبوقة تُمهِّد لواقعٍ كونيّ جديد قد يَقلب التوجُّه السائد حتّى الآن لسيرورة الحضارة البشريّة على الأرض، يبدو العرب في العقود الأولى من هذا القرن وكأنّهم ينوؤون بإرثٍ تاريخيٍّ ضاغطٍ وبأسئلةٍ مُربِكة سيتقرّر بالإجابة عنها موقعهم في المستقبل الإنسانيّ. فعلى الرّغم من التقدّم الذي حصلَ في العالَم العربيّ على صعيد العمران والحداثة الماديّة، لا يزال الإنسانُ العربيّ مُحاصَراً بأسئلة القرن التّاسع عشر، يستعيدها ويُكرِّرها ويدور حولها في حلقةٍ مفرغة.

لم يحسم الإنسانُ العربيُّ إلى الآن أيَّ سؤالٍ من الأسئلة النهضويّة المطروحة، من سؤال التنمية إلى سؤال الحريّة الاجتماعيّة والسياسيّة، إلى سؤال العِلم والتقدُّم والعدل، فضلاً عن أسئلةِ المواطنيّة والوحدة القوميّة، والمرأة ودَورها وحقوقها الإنسانيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. فهل سيُباشر العرب في هذا القرن مُواجَهةً فعليّة مع هذه الأسئلة التاريخيّة، تؤسِّس لنهضةٍ عربيّة شاملة تفتح أمامهم سُبل التقدُّم والانخراط في بناء المستقبل الإنساني والنِّظام الكوني الجديد؟

تدهوُر مُستمرّ


على رأس هذه الأسئلة المتوارثة، ثمّة سؤال التنمية المُربِك، إذ بعد قرنَيْن على التجربة النهضويّة لمحمّد علي، لا يزال العالَم العربي على الرّغم من مساحته الشاسعة وثرواته الكبرى، يُعاني أزماتٍ حادّة اقتصاديّة وإنتاجيّة واجتماعيّة وعلميّة، ولا يزال يَستورِد 75 في المئة من غذائه و90 في المئة من سلاحه و95 في المئة من علومه الحديثة وتقنيّاتها، ولا تزال قيمة دليل التنمية البشريّة في البلدان العربيّة 0.708 قياساً إلى 0.896 في منظّمة التعاوُن الاقتصادي والتنمية، و 0.732 في العالَم وفقَ تقرير التنمية البشريّة 2021 - 2022.

ووفقَ التقرير إيّاه أيضاً، حلَّت البلدانُ العربيّة الكبرى في مراتب تنمويّة متأخّرة بين دول العالَم: الجزائر 91، تونس ومصر 97، الأردن 102، ليبيا 104، العراق 121، المغرب 123، السودان 172، اليمن 183؛ فيما وصلتْ نسبة الدَّين العامّ الخارجي إلى النّاتج المحلّي الإجمالي للدول العربيّة متوسّطة ومُنخفضة الدخل إلى حوالى 26 في المئة في العام 2018 وفق تقرير البنك الدولي. وفيما تَصل نسبةُ البطالة إلى 17 في المئة في معدّلها الوسطي، ثمّة 250 مليون عربيٍّ يعيشون بين الفقر والتهميش، وفقَ «التقرير العربي الثاني عشر للتنمية الثقافيّة» الصادر عن «مؤسّسة الفكر العربي» في العام 2021، وتبقى نسبة القوى العاملة من السكّان البالغة 2.44 في المئة، الأكثر ضآلةً في العالَم، وفق «تقرير التنمية البشريّة لعام 2016»، وكلّ ذلك بالترافُق مع خَلَلٍ واسعٍ في توزيع الثروة العربيّة، حيث التفاوُت كبير بين الفقراء والأغنياء، وحيث الطبقة الوسطى في تدهوُرٍ مُستمرّ.

في مُوازاة سؤال التنمية يَبرز سؤالُ العِلم والثقافة. ففي حين حقَّقت إنكلترا القرن السابع عشر، وفرنسا القرن الثامن عشر، وروسيا القرن التّاسع عشر، محو أميّة نصف السكّان، لا تزال نسبة الأُمّية بين البالغين (15 سنة وما فوق) في الدول العربيّة، وفق التقرير الاقتصادي العربي الموحّد 2022 الصادر عن صندوق النقد العربيّ تقدَّر بنحو 24.6 في المئة، وهي بذلك تفوق مثيلاتها في جميع الأقاليم في العالَم، باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء، حيث بلغت نحو 33.9 في المئة.

أمّا إسهام العرب في الابتكارات العلميّة والثقافيّة فيقرب من الصفر، فيما حافظت إسرائيل منذ العام 1967 إلى اليوم على تفوُّقِها على مجموع العالَم العربي في الأبحاث العلميّة، على الرّغم من توافُر مئات الجامعات وأكثر من ألف مركز للبحث والتطوير في المنطقة العربيّة.

سؤال لا يموت

في مقدّمة الأسئلة النهضويّة المُتوارَثة، ثمّة سؤال الحريّة التي شكَّلت بمفهومها اللّيبرالي الحديث وجهاً أساسيّاً في اهتمامات النهضويّين المتنوّرين.

ومن الأسئلة الكبرى والمُتوارَثة التي لاتزال تتحدّى العالَم العربي في هذا القرن، سؤال المرأة وحقوقها الإنسانيّة والسياسيّة الاجتماعيّة، مع أنّ متنوّري النهضة نادوا منذ أواسط القرن التّاسع عشر بمعاملة المرأة بما «يليق بانتمائها إلى أمّة متمدّنة» بتعبير بطرس البستاني في «خطاب في تعليم النساء» في العام 1849، بتعليمها واحترام حقوقها في العمل واختيار الزوج، ولو في أُطرٍ محدودة. لكنّ تقارير التنمية البشريّة والإنسانيّة دلَّت على أنّه لا يزال يسود معظم الأقطار العربيّة اتّجاهٌ تقليديّ يَنزع إلى حرمان المرأة من حقوقها المدنيّة والعامّة والأسريّة، إذ لم تكتسب بعد حقوقها المهنيّة، ولا تزال مُشاركتها في العمل هي الأدنى في العالم (22 في المئة من القوى العاملة قياساً إلى 49 في المئة في العالَم).

وتشير الدراسات والأبحاث إلى الفجوة الكبيرة بين الذكور والإناث في معدّلات معرفة القراءة والكتابة في العالَم العربي؛ وهي الأكبر في العالَم، فضلاً عن تعرُّض نسبة عالية من النساء العربيّات للضرب والإيذاء الجسدي، وإلى حرمانهنّ من حقوقهنّ في اختيار الزوج وفي المُشارَكة في الحياة السياسيّة.

ومن الأسئلة الأساسيّة المُربِكة المطروحة على العرب في بدايات هذا القرن، سؤال المُواطَنة والاندماج الوطني والقومي. فبعد مرور أكثر من قرنٍ على مُناداة نجيب العازوري في كتابه «يقظة الأمّة العربيّة» (1905) بوحدة عربيّة تشمل الأقاليم الآسيويّة في العالَم العربي، ثمّ دعوة أنطون سعادة إلى وحدةِ سورية الطبيعيّة، ومُناداة أمين الريحاني وقسطنطين زريق بالوحدة العربيّة الشاملة، وبعد أكثر من قرنٍ ونصف القرن على دعوة بطرس البستاني وفرنسيس المرّاش إلى انتماءٍ وطني مُنزَّه عن العصبيّات الطائفيّة والمليّة، ومُناداة فرح أنطون بالفصل التامّ بين الدّين والسياسة، يَظهر العالَم العربي في بدايات هذا القرن، كما في نهايات القرن الماضي، على حالٍ من التفتُّت والتشرذُم القَبلي والطائفي والمذهبي والعشائري، وكأنّه عصيٌّ على الاندماج الوطني والقومي، ومهدَّدٌ على الدوام بالحرب الأهليّة والنِّزاعات ما قَبل الوطنيّة وما قَبل القوميّة.

وثمّة سؤالٌ آخر ما زال يُربِك النهضة العربيّة منذ بداياتها، هو سؤال العقل والحداثة. كان بعض متنوِّري النهضة قد قارَبَ الإشكالَ الكبير بين العرب والحداثة، ووَضَعَ اليدَ على مَكمن العلّة المُتمثِّل في شيوع الاستبداد وسقوط العقلانيّة؛ إلّا أنّ سؤال الحداثة والعقل بقيَ مُعلَّقاً، ثمّ ما لبثَ أن عادَ أكثر ثقلاً على وعي النُّخب العربيّة منذ نهايات القرن العشرين؛ إذ لاحظَ محمّد أركون مأزقَ العقل العربي المتمثّل في الاستمرار الإبستمولوجي بين أوّل تبلْورٍ لصيغة الإسلام في القرون الهجريّة الأولى، وبين الصيَغ التي يتّخذها الخطابُ الإسلامي الأصولي السائد في أواخر القرن العشرين؛ فيما رأى ناصيف نصّار أنّ أزمة العرب الرّاهنة بنيويّة ونافِذة إلى صميم حركة النموّ والتقدُّم في المُجتمعات العربيّة، حيث لا تزال الأسئلة الكبرى، أسئلة العقل والحداثة، معلَّقة ومن دون إجابة. وما استمرارُ سجال العقل والحداثة مُحتدِماً مطلعَ هذا القرن، حيث عادَ البعضُ إلى عقلانيّة ابن رشد مُستجيراً بها، ولاذَ البعضُ إلى أمان الشرع خَوفاً وتقيّة، إلّا تأكيدٌ للإرباك الذي لا يزال يشكّله سؤالُ العقل في الفكر العربي الرّاهن.

المحصّلة العربيّة في العقود الأولى من هذا القرن أنّ ثمّة أزمة تنمويّة ثقافيّة إيديولوجيّة تحيق بالإنسان العربي.. فكيف سيُواجهها؟ هل من أملٍ في هذا القرن بإعادة إحياء فكرة الوحدة العربيّة، ولو من باب الاتّحاد والتعاوُن، وصَوْغ إطارٍ جديد للتنمية والمُواجَهة الحضاريّة مع الغرب وإسرائيل؟ هل من أملٍ بنهضةٍ اقتصاديّة اجتماعيّة تُحقِّق كفايةَ الإنسان العربي وتُسقِط حالَ الفقر والأميّة والمديونيّة من خلال تثوير الإنتاج، والحدّ من الاستيراد بالاعتماد المُتزايد على الذّات وضبْط الانفجار السكّاني ووقْف الهَدر في المداخيل والثروات، وإقحام المرأة في البناء والإنتاج؟ هل سيَحصل في هذا القرن تبدّلٌ جذريٌّ في التعامُل مع الإنسان وحقوقه الأساسيّة، إنْ من حيث حقّه في الحياة والكرامة أو من حيث حقّه في تقرير مصيره واختيار قناعاته العقائديّة والإيديولوجيّة؟

هل سيحمل هذا القرنُ تغييراً في «الإبستميّة» المُهيْمِنة على العقل العربي منذ القرن الهجري الأوّل، على حدّ تعبير محمّد أركون، فيُصبح مُمكناً بالتالي تفكيك مقولات المُجتمع السلطوي واستيعاب روح الحداثة، وعقلها، وقيَمها، فتَستقيم علاقتنا بالذّات والآخر على نحوٍ يُمهّد لرؤيةٍ جديدة للنهضة، رؤية متحرِّرة من عِقَدِ الدونيّة والتبعيّة أو الردَّة والتكفير؟

هل سيتمكَّن العربُ في هذا القرن من الانخراط في ثورةِ العَوْلَمة وفَهْم متغيّراتها وتحوّلاتها فيكونون جزءاً منها، بدلاً من أن تُحيلهم إلى هامشها ويغدون من ضحاياها؟

تساؤلات تَضغط أكثر فأكثر على العقل العربي منذ القرن التّاسع عشر، فهل سيأتي هذا القرن بإجابة عنها؟ *كاتب من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.