تكمن إشكالية (اللسانيات الإدراكية) في ترجمة مفهوم (Cognitive) التي تستخدم في المجال الطبي للتعبير عن الإدراك العقلي أو في تقييم حالة المريض الإدراكية، مصطلح (Cognitive) وإن كان له أصل ديني قديم ولكنه في المجال الطبي قد انفصل تماما عن جذوره الدينية القديمة. بينما استمرت اللسانيات الإدراكية في استدعاء موروثات مفهوم (Cognitive) الدينية القديمة ذات البعد الأسطوري. ما يجعل ترجمتها باللسانيات الإدراكية يبدو مخادعا ويعطيها طابعا علميا يقربها لمجال علوم الأعصاب وعدة تخصصات طبية مختلفة ويصنع نقاط التقاء وهمية بينها وبين علوم حديثة أخرى. وهذا يكمن في الترجمة الخاطئة للمصطلح. في مجال اللسانيات الإدراكية فالترجمة التي تقرب مفهوم (Cognitive) للأذهان وتضعه ضمن سياقه الطبيعي هي (اللسانيات العرفانية) وهي تشير إلى علم العرفان المتسم بالنزعة الصوفية على أساس الوجد والعروج الروحاني، ومن هنا ينشأ الشك في مدى انسجام هذا الحقل اللساني مع الدراسة العلمية ويشكك في مشروعية تصنيفها ضمن مجالات العلوم الإدراكية.
أشار محمد عابد الجابري لمفهوم العرفان في كتابه بنية العقل العربي قائلا: «العرفان في اللغات الأجنبية يسمى الغنوص gnose والكلمة يونانية الأصل gnosis ومعناها: المعرفة. وقد استعملت أيضا بمعنى العلم والحكمة. غير أن ما يميز العرفان هو أنه من جهة معرفة بالأمور الدينية تخصيصا، وأنه من جهة أخرى معرفة يعتبرها أصحابها أسمى معرفة من معرفة المؤمنين البسطاء وأرقى من معرفة علماء الدين». لم تنفصل اللسانيات العرفانية عن تبني بعض المفاهيم ذات البعد الغنوصي، كالاعتقاد بوجود عالمين متناقضين يفترض وجود معرفتين متناقضتين، وهما العالم المثالي العقلي ويقابله العالم الحسي المادي. والمعرفة في العالم المثالي العقلي فطرية بينما المعرفة في العالم الحسي المادي مكتسبة، وفكرة المعرفة الفطرية قام عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي بنقلها حرفيا في نظريته حول فطرية اللغة وآلية اكتسابها عند الأطفال.
العرفان كما يعرفه الجابري بأنه: «نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة ورؤية العالم». معرفة باطنية لعالم ما فوق الحس تبتغي معرفة الأسرار الإلهية ومعرفة كل ما هو سري وخفي كالسحر والتنجيم. هي معرفة يمكن وصفها بأنها إشراقية، والإشراق نظرية فلسفية يونانية تقول إن الإنسان يكتسب المعرفة عن طريق الإلهام القادم من الأعلى، ومن هنا نشأت إشكالية فطرية المعرفة التي تأثر بها تشومسكي وأخرج لنا فرضيته في مسألة فطرية اللغة التي يقوم عليها مشروعه اللساني الذي أصبح يعامل معاملة العلوم الطبيعية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء، وامتد وتطور وأضيف لمشروعه بعض التحسينات والتنقيحات حتى أصبح يسمى اليوم باللسانيات الإدراكية. وهنا نتساءل: كيف بعلم لا وجود له أو لم يتشكل بعد على أحسن تقدير، أن يفرض على طلاب الجامعات وطلاب الدراسات العليا، أو يقدم في المجتمع الأكاديمي بوصفه علما حديثا؟