دوائر وجودنا جميعها، والدينية منها، تدور حول توحيد مشاعر وشعائر البشر، وهذا وإن كان من أهم المطالب الشرعية؛ إلا أنه ينبغي أن يكون اختياريَا وغير إلزامي، كما يجب وفي كل الأحوال مراعاة الواقع، كذا السياقات الحياتية المختلفة.

الوحدة بنوعيها المذكورين في صدر المقال، لا تعني أن يكون الناس في قالب واحد، كما لا يليق ولا يصح معاداة من يختلف عن الآخر، أو محاربته بشتى صنوف الحروب الخبيثة، بحجج واهية، مثل تنوع الممارسات أو تعدد الاختيارات، فالوحدة ليست تبريرًا صحيحًا لسلب حق أحد في أن يشكل دينه ودنياه وآخرته بالشكل المنسجم مع ثوابت الدين والوطن وحدود ذلك وضوابطه، والمنسجم أيضا مع «التنوع المتناغم»، وأقصد هنا أن يعيش الناس باختلافاتهم في انسجام تام، ودون أي تشتت، أو قطيعة، أو انفصام.

مقالي هنا محاولة تابعة لمحاولات قديمة سابقة تصب في الدعوة إلى الاقتناع بأن المفتاح الأهم لتعزيز الوحدة والتوحيد هو احترام الاختلاف والمختلفين، والنظر إليه وإليهم كأسس للجمال، ولخلق مكونات تؤمن من الباطن قبل الظاهر بأن الاختلاف ليس عداوة، وأن من الممكن جدًا تناغمه لصالح البلاد والعباد، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار احترام رأي المخالف، وإنصافه، وعدم النيل منه، وترك خبث معاداته، وقدمنا حسن الظن به، بدلا من سلوك «اللف والدوران» في اختراعات التهم، والدخول في باطن عقول الخلق، وبذلنا جهدنا في البحث للمخالف عن الأعذار، وكنا أصحاب «شيمة وفزعة».

يحكى عن سيرة والد الجميع، جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- أنه «كان هناك أحد الأشخاص ارتكب جرمًا عظيمًا، فغضب عليه الملك عبدالعزيز، فلما أُتي به أمامه سكت الناس جميعًا من كثرة غضبه عليه، فقال للحضور: «ما عادت للناس شيمة ولا فزعة، ما فيكم واحد يأتيني ويفزع لهذا الشخص الذي أمامي»، «أنا سأفزع له، وأعفو عنه»، وهذه الحكاية مشهورة، وآخر من حكاها عنه، حفيده الأمير بدر بن عبدالمحسن، ونقلتها بنصها منه، رحمهما الله جميعًا.

مقالي هنا -مرة أخرى- يأتي رغبة في أن يتخلص الناس بمستوياتهم ومراتبهم ودرجاتهم كافة، من روحيْ الإقصاء والانغلاق المدفونة داخل عقولهم وقلوبهم، وأن يتركوا الظنون السيئة عن بعضهم البعض، ويحذروا من التفرق وخاصة المبني على الهوى أو العادة، وأن يتحلوا بالإنصاف مع الانفتاح، وباللين مع عدم الشراسة، وأن يراجعوا المفاهيم المغلوطة بهدوء، وأن يرفعوا الالتباس في مفاهيمهم عن بعضهم.

وهنا أختم بجواب للشيخ ابن تيمية في «الفتاوى» عن سؤال وجه له -رحمه الله- متعلق بقصة حديث تأبير النخل، وحديثه صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر، إذا أخبرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أخبرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر»، قال: «علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه.. فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات.. واتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض؛ بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم..».