لكل إنسان مذهب في الحياة ، يبتدىء بأمله وينتهى بأجله . كل نفس من أنفاسه خطوة عليه ، وكل دور من عمره مرحلة فيه. والمذاهب تختلف باختلاف الناس في الطينة والبيئة والوراثة والبيئة منها ما يؤدى، ومنها ما لا يؤدى. وربما يؤدى المعوج كما يؤدى المستقيم؛ ولكن المؤدى إليه في الحالين لا يكون متحداً لا في طبيعته ولا في نتيجته. وقد يعتري المذهب ما يعتري النفس من الغموض والانبهام، فتلتبس الوجهة على السالك حتى لا يعرف قبيلا من دبير. وهنا ينفع الدليل. وخير الأدلاء من أشرف على غاية الطريق فاكتسب تجربة بسنه أو خبرة بعلمه.

لذلك كان من الخير للبادئين من الناشئين من الشباب أن يطيلوا النظر في مذاهب المنتهين من الشيوخ، فإن ذهاب الشباب مذهب الناجحين الناجين أجدى عليهم من اعتساف الطريق أو اختلاط الحيرة. ودونك مذهبي. مذهبي في الحياة يتميز بالاستقامة والوضوح. وبفضل هاتين الميزتين بلغت الغاية التي قصدتها منذ وعيت. لم أبلغ عليه الثراء الضخم ولا الجاه العريض، ولكني بلغت عليه العيش الرخي، والبال الرضي، والذكر الحسن. والسعادة الحق أقرب إلى الرضا والسكينة منها إلا المال والمنصب.

حرصت على أن يكون مذهبي مستقيماً، حتى كانت العقبة الضخمة تعترض فأقف دونها طويلا، أفتتها، مولى الصغير حصاة حصاة إلى أن تذل وتزول. ولو أني انحرفت عنها كثيراً أو قليلا ذات اليمين أو ذات الشمال لخلصت منها. وبلغت الغاية في أقل زمن وأيسر جهد. ولكنى كنت أستريح بطبيعتي إلى الحديث المأثور. « عليكم بالجادة ودعوا البنيات ». يريد الرسول الكريم بالجادة وسط الطريق وهو الاعتدال، وبالبنيات الطرق الصغار التي تتشعب من الجادة وهي مظنة الزيغ والضلال والتعدي والهلكة.


وحرصت على أن يكون مذهبي واضحاً، حتى كانت المشكلة الصعبة تعرض فيكون حلها يسيراً بشيء من النفاق وقليل من المصانعة؛ ولكنى كنت أنفر من ذلك كله وأحاول أن أعالجها بالصدق والصبر والصراحة، فتنحل بعد أن تترك في النفس من الأثر ما يتركه الجرح في الجسد من الندوب؛ ولكن هذه الندوب ستظل على الزمن مثاراً للذة من لذات الروح تشيع فيها العزة والحرية والكرامة.

نهج لي هذا المذهب والزمني إياه طبع حر مسالم ؛ فأنا منذ حملت نصيبي من عبء الحياة أحاول أن أستقل في عملي عن إرادة الغير، وأستغنى بقدرتي عن معونة الناس، فلم أضع يدى ولا عنقي في أغلال الوظائف الحكومية، ولم أصعد صعود العليق على أكتاف الطوال من ذوى السلطان؛ وإنما اضطربت في مجالي الحيوي طليقاً من كل قيد إلا قيد الخلق، مستقلا عن كل عون إلا عون الله. بذلك سلمت نفسي من رذائل الوظيفة فلا جبن ولا رياء ولا ملق، وبرئت حياتي من نقائص التبعية فلا خضوع وإلا إغضاء ولا ذلة.

من مذهبي أن أدع الخلق للخالق فلا أنتقد ولا أعترض، ولا أمد عيني وراء الحجب، ولا أرهف أذني خلف الجدر، ولا أدس أنفي بين الوجوه، ولا أزحم بمنكبي من يمشى عن يميني أو عن يساري ما دام الطريق مفتوحا أمامي إلى الوجه الذي أقصده. لذلك عشت لين الجانب سليم الصدر لا أدخل في جدل... ولا أشارك في مراء ولا ألج في منافسة. وكان من جدوى ذلك على أن الله وقاني... عذاب الحسد ، وكفاني سر العداوة ، وجعل ما بيني وبين الناس قائماً على المجاملة والمساهلة والود.

ومن مذهبي أن أسقط الماضي من حساب الحاضر فور انقطاعه ، فلا أحزن ، على ما فاتني فيه ، ولا آلم لما ساءني منه. وتصيبني الخسارة فلا أجزع ، إنما أطرحها من ربح الصحة والنجاح والأمن؛ ثم أدبر أمري على اعتبار أنها لم تكن. ويسوء في الصديق فلا أبتئس؛ إنما أحمل إساءته على حيوانيته وأثرته. فإذا عاد إلى الإحسان لا أعاتبه على ما كان ولا أذكره بما فعل. وأي نقع أرتجيه. من تعكير ما راق وإشعال ما خمد؟ إني لا أصادق إلا من أحب. واللذة التي أجدها في حب الإنسان ، تعوضني من الألم الذي أجده في لوم الحيوان. وللإيثار جانب عظيم من مذهبي في الحياة ؛ فأنا أوثر صاحبي على نفسى في المجلس والحديث والهوى. وقد أوثره أحياناً بالمنفعة ، لأن شعوري بأن أدخل السرور عليه، أو أجلب السعادة إليه، أجل في نفسي من شعوري بأن أتصدر في الجلوس أو أنفرد بالكلام أو أتغلب في الإرادة أو أختص بالفائدة .

ومن مذهبي أن أكره الظهور وأمقت الدعوى وأجتنب الفضول؛ فأنا أعيش في عزلة وأعمل في صمت وأمشى في قصد. وهذه الخلال قد تعوق عن... الوصول في عصر كهذا العصر، أعماله تظاهر، وأقواله هتاف، ووسائله إعلان وغاياته شهوة. ولكن الذين يندفعون إلى الأمام بهذه الدوافع لا يلبثون أن يفقدوا الأجنحة المصنوعة والمحركات المستعارة فيقفوا حتى يفوتهم أولئك الذين يسيرون هوناً على أقدامهم الطبيعية، أو على مراكبهم الخاصة، من غير أن ينالهم خزى أو يمسهم لغوب. من أجل ذلك لم أدخل في حزب ولم أقف على منصة ولم أظهر في جريدة.

1933*

* كاتب ودبلوماسي مصري «1915-1993» .