هذه هي خلاصة السرياليّة بحسب إعلان بريتون وسلفه الشاعر تريستان تزارا. ولكن لو حوسِبَ هو نفسه بمقتضى هذا الكلام لَوقفَ في قفص الاتّهام، فقد كان تروتسكيّاً مُتحمّساً، بخاصّة بعد هربِ تروتسكي إلى الأرجنتين، حيث حلَّ الشاعر عليه ضيفاً لمدّةٍ غير قصيرة. ووقفَ تزارا مع ستالين وأيَّده بحماسةٍ تُقابِل حماسةَ بريتون. ولا شكّ سوف يَقف إلى جانبِ بريتون في قفصِ الاتّهام، فأفعالهما نقيض أقوالهما. وقد نوهِم أنفُسَنا بأنّه يَقصد مَوقفاً في الكتابة، لكنّ الواقع أنّهما في المُمارَسة لم يَعكسا موقفهما في الكتابة.. والعكس صحيح. كان هذا الكلام في العقدَيْن الأوّل والثاني من القرن العشرين، ونحن نعرف ماذا كانت عليه الأمور من احتقانٍ وإحباطٍ وقلقٍ وتوجُّسٍ في تلك الآونة.
في المقابل، فإنّ الدادائيّة التي واكَبها بريتون بعضاً من زمن، كانت من إنتاج الروماني تريستان تزارا، الذي كان يلعب الشطرنج مع لينين، قَبل أن يتركه لينين، ويُصبح زعيماً، تؤيّده الجماهير المُستاءة والمُتضرِّرة من الحرب، ومن ثمّ غدا زعيمَ الاتّحاد السوفياتي. فكلّ ما حدثَ رآه تزارا أشبه بكابوس، أو بحُلمٍ عبثيّ... من الشطرنج إلى الزعامة! وتنتهي الحربُ العالميّة بكارثةٍ ودمارٍ لم يَسبق للعالم أن شهدَ مثيلاً لهما من قَبل. وممّا يزيد الدهشة أنّ الذريعةَ كانت اغتيال الأرشيدوق النمساوي... كمَن يَهدم الجدار لقتلِ بعوضة، إنّه الواقعي الذي لا يُصدَّق.
وتَشاء المُصادفة أنّ الشاعر أبولينير قال في العام 1917 في إحدى رسائله: "بعد البحث والتدقيق أظنّ أنّ من الأفضل أن أتبنّى لفظة "سرياليّة" لتحلَّ محلّ "فوق طبيعيّة" التي كنتُ قد استخدمتها من قَبل. ولا توجد هذه اللّفظة بعد في المعاجم. لكنّي أظنّ أنّ التعامُل معها أسهل من التعامُل مع كلمة "فوق طبيعيّة" التي استخدَمها السادةُ الفلاسفة". وكان الشاعر أبولينير، العائد من الحرب، والمهزوم نفسانيّاً، يحمل في جمجمته رصاصة، عملت على موته في ما بعد. كان يَعرف أنّه يَحمل الموتَ في رأسه، وكان يَعرف من الجرّاحين أن لا سبيل إلى إخراج هديّة الحرب من رأسه، وهو وضعٌ نَجده في عقابيل كلّ حرب من الحروب، ولَو كانت حَرباً محدودة.
ومنذ ذلك الحين بَدأ اسم الدادائيّة يتراجع ويحلّ محلّه اسم السرياليّة الذي اقترحه أبولينير، والذي تبنّاه في ما بعد أندريه بريتون.
في العام 1948 قابلتُ الرقيبَ خليل الأحمر، العائد من الحرب في فلسطين، وفي رأسه رصاصة كما في رأس أبولينير، وحرصتُ على تكرار اللّقاء، فسمعتُ منه، بعدما سردَ سرداً معقولاً وواقعيّاً مجريات تجربته في الحرب، تعليقاتٍ بأسلوبٍ غريبٍ عجيب، لم يَخطر في بالي أنّ أحداً يتفوّه بها. كان يقفز من نقطةٍ إلى نقطة بسرعة كبيرة، ويصبّ غضبه بكلماتٍ سوقيّة على قائد كتيبته.
كلّ سريالي تقريباً، مَن شارَك في الحرب أو مَن تأثّرتْ نفسه بها، كان يحمل في رأسه رصاصة، ماديّة أو نفسانيّة، ويتكلّم بمثل ما تكلّم به أبو يوسف خليل الأحمر.
هكذا تبدو لنا زنبقة السرياليّة، وهي تَخرج من المياه العكرة للحرب القذرة.
رأيٌ آخر
على أنّ أدونيس، وهو ما هو من التدقيق والتبصُّر، يَرى رأياً آخر في السرياليّة، عندما يُقارِن بينها وبين الصوفيّة في كتابه المشهور "الصوفيّة والسورياليّة". يقول "والاتّجاه إلى الصوفيّة أملاه عجزُ العقل (والشريعة الدينيّة) عن الجواب عن كثيرٍ من الأسئلة العميقة عند الإنسان، وأملاه كذلك عجزُ العِلم. فالإنسانُ يشعر أنّ ثمّة مشكلاتٍ تؤرّقه، حتّى عندما تُحَلّ جميع المشكلات العقليّة، والشرعيّة - الدينيّة والعلميّة، أو عندما تُحَلّ جميع المشكلات بوساطة العقل والشَّرع والعِلم. هذا الذي لم يُحَلّ (لا يُحَلّ)، هذا الذي لم يُعرَف (لا يُعرَف)، هذا الذي لم يُقَل (لا يُقال) هو ما يُولِّد الاتّجاهَ نحو الصوفيّة. وهو نفسه ممّا سوَّغ نشأة السورياليّة. فدعوى السورياليّة الأولى، هي أنّها حركةٌ لقولِ ما لم يُقَلْ، أو ما لا يُقال. ومدار الصوفيّة، كما أفهمها، هو اللّامقول، اللّامرئي، اللّامعروف".
قد يبدو هذا الرأي مُخالِفاً لما اتَّفق عليه النقّاد من أنّ الواقع المضْطرب والعكِر، بل المريع، كان وراء ظهور السرياليّة. ولكنْ لو تمعَّنّا في المقصد الذي رمى إليه أدونيس، لوَجدْنا أنّه لا يَختلف عن الظروف الواقعيّة للحرب العالميّة الأولى التي ولَّدت الدادائيّة والسرياليّة. ليس من الضروريّ أن تَخوضَ حَرباً حتّى تَشعر بالقلق. قد تدورُ الحربُ في مخيّلتكَ فتكون أشدّ هَولاً من الحرب الحقيقيّة. إنّ رفضَ الواقع من كاتبٍ لا يرضى عنه، بل يراه عالَماً فيه خطرٌ كبير على الآخرين، ودمارٌ لذاته نفسها، وقد تدور فيه حربٌ بلا ضجيج، ولا قعْقَعة سلاح، ولكنّها أخطر من الحرب الواقعيّة، لأنّها حربٌ لا تُعرَف لها نهاية، فتتكوّن المياه العكرة في النَّفس البشريّة، وتَخرج زنبقةُ السرياليّة من هذا الواقع الشبيه بواقع الحرب العالميّة الأولى، بل أشدّ بشاعةً وإجراماً.
زنبقة أورخان ميسّر
عاشَ أورخان ميسّر (1914 - 1965) حياةً مُستقرّة، بالقياسِ إلى غيره من أوساط الناس، في أعقابِ الحرب العالميّة الثانية وما رافقها من اضطرابٍ وقصورٍ في الإمداد الغذائي، وتشويشٍ في العلائق الاجتماعيّة، وهجرة، وعناء، وفقدانٍ للسلع. أَشرف على أملاك أبيه، وأَدارها برويّة، وبعقلانيّة، بعيداً عن الاستغلال واهتبال الفُرص. ولم يكُن يشكو من شيء. رضيُّ الخلق، متعطّف، بمهابة رزينة، كلمات هادئة وناضجة يصبّها في أذن المصغي، فتصلُ الصورةُ واضحةً جليّة. لم يُبدِ تأفُّفاً، ولم يَتغيّر نَهجُه بعدما عرفَ متأخّراً أنّه فريسة السرطان، المرض القاتل. والذهاب إلى أنّ مَرضَهُ أَثّر في نظرته إلى العالَم ادّعاءٌ غير مُقنع. والأجدر القول إنّ نظرته الثقافيّة إلى العالَم هي التي طبعت شِعره.
ولم تكُن حياتُه الوظيفيّة مُزعجة، بل كانت مُريحةً له، ولكلّ مَن يعمل معه. فمِن أيّ الجهاتِ هبَّت الريح، ومن أيّ المياه نَبتت الزنبقة؟
ربّما كان في إهداءِ الديوان ما يُظهِر مَنابِتَ هذه الزنبقة:
"إلى
هذه "الأنا" النَّهمة التي لا ترى
والتي دأبها إبداعُ مسوخٍ تُقدِّمها
لهَيْكلِها المليء بالمسوخ...
لتَرقدَ بعد ذلك لحظة هنيئة
فيها استمتاع، وفيها اطمئنان؛
تَستجمع بينهما قواه،
لتَخلق مسوخاً جديدةً أخرى"
في هذا الإهداء ما يُفسِّر لنا كيف نَبتت الزنبقة، فالماء عكر، والنَّفس مُستفِزّة، والعَيْن تُراقِب بدقّة، والخيال يُركِّب الصورةَ بعد الصورة، ليبدوَ العالَم كئيباً، وليبدوَ أنّ العصرَ دخلَ في زمنِ الرّعب، بحسب ما يُخيَّل لأورخان. إنّها حساسيّة الثقافة التي ركّبت نولها في إحساساته، وراحت تَنسجُ الخيوطَ من سورية ولبنان والولايات المتّحدة. ولا نقصد بهذه الثقافة دراسته العلميّة، إنّما نَقصد رؤيةَ العالَم كما نَسَجَهُ تكوينُه الاجتماعي. إنّ الموقف من العالَم، هو ما يُشكِّل الموقفَ الكتابي. وبحسب هذا الموقف، الراضي بالعالَم أو الرافض له، تَنطلق الكتابة.
طُبع ديوانُه للمرّةِ الأولى في العام 1948 وهو عام النكبة، كما نُطلِق عليه، قَبل أن يُقدِّم له أدونيس في طبعته الثانية في "اتّحاد الكتّاب العرب" في دمشق 1979، ولكنّنا لا نَجد أثراً لهذه النكبة، بالتوتّر المتوقَّع، مع أنّه كان من أشدّ المُناصرين لقضيّة فلسطين والفلسطينيّين. ربّما كانت قصيدته "خيبة" تعبيراً عن استيائه من موقف الدول العربيّة من القضيّة. ولكن يُمكن أن نَذهب مذاهب أخرى في تلقّي هذه القصيدة، مذاهب تنسجم مع نظرته إلى العالَم، الذي رآه عبثيّاً، مثل أيّ وجوديٍّ أو رومانسيٍّ مُتشائم، أو سرياليٍّ مُتجهّم. وأذكر أنّنا في أعقاب الحرب العالميّة الثانية كنّا متفائلين جدّاً بأنّ العالَمَ مُقبِلٌ على تغييرٍ إيجابيّ، وأنّ هيئة الأُمم الجديدة ستمسك بزمام التطوّر العالَميّ بقبضة القانون الصارمة، وكنّا نُردِّد أشعار بول إيلوار ولويس أراغون المُتفائلة، بعد زيارة الجنرال ديغول لسورية. لكنّ أورخان ميسّر، الذي يكبُرنا بربعِ قرنٍ، كان أعمق في نظرته إلى الوجود. إنّه يسير في الطريق العامّ، ولا يلتفت إلى التفريعات الضيّقة والعابرة. كان يرى المأساة في الوجود، وليس في الأحداث العابرة.
زنبقة بعبيرٍ شرقيّ
لا يُماري أحدٌ في أنّه كان سرياليّاً. بل إنّ عنوان ديوانه "سريال" يفصح عن توجّهه. ولكنّ هذه السرياليّة لا تشبه تلك التي في الغرب. صحيح أنّ الرصاصة غائصة في نَفْسِ أورخان، ربّما أعمق من الرصاصة التي أَصابت جمجمة أبولينير، ولكنّها لم تفعل في نفسه ما فعلته في جمجمة أبولينير. إنّ رصاصة أورخان أنبتت زنبقةً شرقيّة. إنّنا نسمع منه تلك اللّهجة الشرقيّة المتأفّفة، وإن كانت تقترب به إلى نَوعٍ من العدميّة، التي كانت قد أَخذت تشيع في أدبِنا بعد نقْلِ أدب كامو وسواه من العدميّين:
دأبي تكويم الظلال،
أمّا الخطوط والألوان فأتركها طعماً لأحلامي التي
تلتهم بعضي دون وعيٍ منّي.
أمّا أنا، أنا المجرَّد من الظلال والألوان وخفقة الحُلم،
أمضي كبُحّة وَتَرٍ مقطوع، غُمِر في الطين.
صورة شرقيّة طريفة، قلّما خَطرت على بال السرياليّين في الغرب. أيضاً نغمة الأسى التي نلمسها في هذه القطعة يندر وجودها في الشعر السريالي الغربي.
إنّنا لا نَجد مثل هذا الوضوح في الأسلوب عند السرياليّين، كما لا نَجد أحداً منهم يُعبّر كما يُعبّر أورخان، حتّى عندما يقترب من أسلوبهم. يقول في قصيدة "قبور":
لم تكُن لي معاول في الماضي
فكنتُ أحفر القبورَ بأظافري
وكنتُ أضع في هذه القبور
لهاث المدى
وكنتُ ما بين لحظةٍ وأخرى
أعودُ إلى مقبرتي فأجدُ
ما بين حفرةٍ وأخرى
حفرةً لم تصنعها يداي
غير أنّي في تجوالي هذا،
أحسستُ كأنّني لم أَنتقل
من قبرٍ إلى قبرٍ آخر
نحن هنا، كما في باقي قصائده، أمامَ أسلوبٍ شرقيٍّ واضحٍ وسَهل، بل ومُباشر، سوى أنّ رؤية العالَم كانت سوداء مثل بقيّة السرياليّين، فلا بدّ من أن نتهيّبَ عندما نتّهمه، أو نَتهمُّ غيره، بالتبعيّة للمذاهب الغربيّة. الزنبقة تبقى بنت تربتها، وإن هبّت عليها شتّى النسائم والرياح.
كان من النّخبة التي أدارت ظهرَها لأسلوب الأداء الشعري القديم، وسَعَتْ أن تنقلَ، بكلّ وضوح، رؤيتَها للعالَم، من أمثال سليمان عوّاد ومحمّد الماغوط... وشعراء آخرين، يصحّ أن يُطلَق عليهم "طليعة الشعر الحديث" إلى جانب أدونيس والسيّاب والبيّاتي... سوى أنّ النفحات الشرقيّة تبدو أوضح عند أورخان.
الخلاصة؟ إنّ اطّلاع هذا الشاعر على السرياليّة فَتَحَ عينَيْه على الأسلوب، ولكنّه ظلَّ مُضمَّخاً بالمشاعر الشرقيّة الدفّاقة. وقد مرَّ بالدنيا مروراً عابراً أشبه بحكايةٍ رومانسيّة، معجونة بالحزن ومشبعة بقسوة الواقع. وفي قصائد الديوان ما يُبرزه لنا شاعراً رائداً، بحسٍّ أرهف من حدّ الملاك الحارس، كما في "ضياع" و"بلادي" و"أمّ كلثوم"... وقصيدته العبثية "دُمى".
إنّ أبرز ما فيه جرأته على اقتحام الأساليب، وشجاعته في تصوير النعيم المُتخيَّل في طبقات جحيم الواقع... إنّنا اليوم في مسيس الحاجة إلى جرأتك يا أورخان.
* ناقد وكاتب من سوريا
* ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية.