أن «تبدو» عابثاً في الكتابة هو غير أن تعبث فعلاً. السلوى بالكتابة ليست غاية الكتابة. إنها من أردأ ما يمكن أن يحصل. أن «تبدو» عابثاً هو مظهر خادع يخفي إمـا جـديـة مقهورة وإما تمرداً ما. إذاً، تجربة أساسية.

كذلك المزاح، والسخرية، و«اللعب». والحب وكتابة الرغبة نفسها. عندما يتسلى الكاتب يسقط في نادي الوصافين من خارج لاعبي شطرنج الحروف. يغادر حدود القدر والمصير.

هذه إحدى نقاط الفراق بين الأدبين التقليدي والحديث. الأدب التقليدي بلاستيك قد يكون ممتازاً ومضمونا في الغالب ملفق: في روايته الأشخاص زائفون، وفي مقالته الخطاب «سماعي» براني، وفي شعره غياب للعنصر الجوهري: الشيء الأكثر من «فن الكلام» وبراعة الموسيقى، الشيء الأكثر من الأدب.


الأدب التقليدي يريد أن يظهر لي تفوقه علي أنا القارئ. إنه كالعمارات الضخمة الجبارة في الدول .. الكبرى، غاية عظمتها سحق الإنسان.

مؤازرة المؤسسة ومعس الإنسان. الأدب التقليدي يسحقني بـ «كماله» الاتفاقي، بـ«إعجازه»، بحجارته المرمرية وتماثيله المخيفة وجيوش حذاقاته ومواهبه وعلومه وأنظمته الجرارة. يسحقني، أنا القارئ المسكين الجاهل، بعضلات مصارعته التي تتغلب على كل الصعوبات التي تصطنعها هي، وتنجح في كل الامتحانات البيانية والبديعية والإيقاعية، فأخرج من مطالعته مبهوراً كأرنب مذعور وأكثر انهزاماً وانعدام ثقة مما كنت قبل أن ألج هذه المغامرة. وأرعب ما في الأدب التقليدي روائعه.

***

كان أبي نهاراً وكنت ليلاً. كان يحبني بدون أن أعرف. وكنت أحبه بدون أن يعرف. وكان ذلك حسناً.

كنت أطمح إلى الجلوس مثله إلى الطاولة وأنا صغير : لأكتب كما يكتب، غير مهم ماذا، والسيجارة تشعلها السيجارة والجو حروف تنهمر بعطف وعبارات تنعقد مبتسمة، وسط الفقر المبارك.

كنت أقدس شكله كاتباً. رجل نحيف قلم نحيف دخان أزرق نحيف وكثير من الزهد والامحاء وراء سلاسة واستشفاف زاداني تعلقاً به.

وما إن بدأت بدوري أحمل القلم حتى وجدتني غيره تماماً. كان هو نهاراً وكنت ليلاً. وكان كان وكنت وكنت. إلى أن مات. فنظرت إليه في هدوئه السحيق

واكتشفت، لا أعرف لماذا، أن النهار ذلك لم يكن محض نهار وأن ليلي ليس كما ظننت. ولعلي، من يدري، لم أكن إلا ما تركه لي كي .... أكونه

وبعد غيابه، وهو أول غياب أواجهه بصفاء، أرفع رأسي متفقداً ذلك السقف الذي ما اعتقدته يوماً

سيختفي، فإذا بي ولا سقف لي بعد اليوم غير السماء .

1993*

* شاعر وصحفي لبناني «1937 - 2014».