ماذا يعني أن يكون شخصا ما فيلسوفا؟ من هو الفيلسوف وما معالم نشاطه العقلي؟ أسئلة تبدو مباشرة وسهلة ولكنها تبدو أحيانا معادلة مستحيلة الحل. عندما نطرح السؤال المحير: ما الفلسفة؟ سؤال مع سهولته ومباشرته، تبدو إجابته أصعب من إجابة سؤال: البيضة أصل الدجاجة أم الدجاجة أصل البيضة. ويقدم برتراند رسل إجابته على السؤال بإجابة على غرار: فسر الماء بعد جهد بالماء. حين عرف الفلسفة بقوله: «هي فرضيات حول أمور لا يمكن الحسم بها بطريقة نهائية من الناحية المعرفية». ويعطيها تعريفا هلاميا آخر. يزيدها غموضا حين قال: «الفلسفة كما أفهمها هي شيء يقع في المنتصف بين اللاهوت والعلم».

ما الشيء الغامض واللغز مستحيل الحل الذي يقع في منطقة وسطية بين اللاهوت والعلم؟ لا أحد يعرف حتى برتراند راسل نفسه لا يعرف. ومؤخرا أصبح الكُتاب العرب -بارك الله جهودهم- يربطون بين الفلسفة والتسامح وبين الفلسفة والتفكير الناقد. ويبدو أن هذا الكائن الغامض الذي يقع في المنتصف بين اللاهوت والعلم. له خصائص سحرية تمنح السعادة والتسامح للناس وتهب الأطفال معجزة التفكير الناقد. على كل حال. للطبيب المسلم أبي بكر الرازي بعض التلميحات عن خصائص الفيلسوف قد تدلنا على معرفة ذاك الكائن الغامض القابع بين اللاهوت والعلم.

يقول: «إن ناسا من أهل النظر والتمييز والتحصيل لما رأونا نداخل الناس ونتصرف في وجوه من المعاش عابونا واستنقصونا وزعموا أنا حائدون عن سيرة الفلاسفة ولا سيما عن إمامنا سقراط».


ما سيرة الفلاسفة التي يرمي إليها الرازي. وكيف بشخصية علمية كالرازي يصف سقراط بالإمام. ويهبه مكانة أقرب لمكانة رجال الدين أو شيوخ الطريقة.

دعونا نقدم لكم سيرة سقراط النموذج الأعلى للفلاسفة عبر التاريخ كما ينقلها لنا الرازي بأنه: «لا يأكل لذيذ الطعام ولا يلبس فاخر الثياب ولا يبني ولا يقتني ولا يُنسل ولا يأكل لحما ولا يشرب خمرا ولا يشهد لهوا بل كان مقتصرا على أكل الحشيش والالتفاف في كساء خلق والإيواء إلى حب في البرية» سيرة الفلاسفة كما نفهمها من حديث الرازي. الانقطاع عن العالم وترك الشهوات والانغماس في الملذات الدنيوية وقمع الهوى والعيش في البراري والقفار. نحن هنا أمام سيرة المتصوفين في الحقيقة. ويجب علينا أن نفرق بين التصوف الإسلامي أو كما يمكن أن نسميه (الزهد والتقوى) الذي استلهم بعض عناصره من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح. وبين التصوف الفلسفي القائل بوحدة الوجود والمتخذ من الإشراق سبيلا للوصول إلى شخصية الحكيم المتأله.

سيرة الفلسفة هنا لا تخرج عن سيرة المتصوفين. ويمكن أن تدلنا على تلك المنطقة الوسطى بين اللاهوت والعلم التي أشار لها برتراند راسل. إنها منطقة التصوف اليوناني الذي لا يخرج عن إطار عقيدة وحدة الوجود وتأويلها والدفاع عنها. وهي عقيدة خلقت كثيرا من التحديات في كثير من المجتمعات سواء كانت مسيحية أو يهودية أو إسلامية. الفلسفة علم التصوف اليوناني ولم تخرج عبر تاريخها عن محيط المعتقدات اليونانية التي ظلت تقاوم سياسيا وثقافيا حتى استمر وجودها في المجتمعات الأوروبية الحديثة.

والرازي من الشخصيات المثقفة الذي نقل لنا مقاربة علمية للتصوف اليوناني في رسائله الفلسفية.

والرازي له أصول غير عربية تحمل بقايا من ثقافات سابقة للإسلام، ويمكن القول إن وحدة الوجود كانت فكرة مشتركة بين عدة شعوب وثقافات دخلت المجتمع الإسلامي وظلت تحتفظ بموروثاتها وتحاول أن توائم بينها وبين مبادئ وقيم الدين الجديد.