الجميل في التاريخ أنه لا ينسى، ومهما حاول المرء أن يعتم أو يحذف أو يغير، تنفذ وثائق من هنا وهناك وتفضح السردية. فما على المتابع سوى أن يقرأ ويربط ما بين النقاط ليفهم، فالأمر ليس صعبًا، مجهدًا عند البحث نعم، يأخذ من الوقت ما يأخذ نعم، ولكن العائد دائمًا يستحق؛ إنها الحقائق التي تجعلنا نحلق على مسطح أعلى لنراقب ونقيّم المساحات الشاسعة من المعلومات والأحداث.

حدث خلال حرب الأيام الستة عام 1967، أنه تم إرسال سفينة تجسس «USS Liberty» لجمع إشارات استخباراتية عن الحرب الدائرة بين مصر وإسرائيل. كانت السفينة قريبة من العريش وكانت الوحيدة في تلك المنطقة تحمل العلم بكل وضوح بل وأيضًا رقمها على جانب السفينة كان بخط كبير، لكن تم تجاهل كل هذه العلامات وفي منتصف نهار الثامن من يونيو هوجمت من قبل طائرات إسرائيلية نفاثة وزوارق الطوربيد بلا هوادة لمدة ساعة، حتى من حاول الهرب والنزول في مراكب النجاة المطاطية تم ضربهم وإغراقهم، أصاب طوربيد وسط السفينة لكنها لم تغرق، وتمكنت «ليبرتي» من إرسال إشارة استغاثة، لكن الطائرات النفاثة الموجودة على حاملات الطائرات الأمريكية القريبة لم يتم إطلاقها، رغم أنها تلقت إشارة بالاستعداد ولكن تم التراجع! ذكر «بامفورد» في كتابه الذي صدر عام 2001 بعنوان «جسد الأسرار» أن الرئيس «لندن بي جونسون» عندما سئل عن إبطال قرار التدخل بإرسال طائرات الإنقاذ علق بأنه لا يهتم إذا غرقت السفينة، فهو لن يحرج حلفاءه.

وصل عدد من قتل في هذا العدوان إلى 34 وأصيب 173 ممن كان على السفينة. عُقدت إجراءات التحقيق التي أجرتها محكمة التحقيق البحرية في أعقاب الحادث في جلسات مغلقة، وتم التوصل إلى أن الواقعة كانت «خطأ في تحديد الهوية»! بغض النظر عن كل الأدلة التي كانت تشير إلى أن الهجوم كان مقصودًا ولم تكن هناك مساحة للخطأ؛ خاصة بعد تسريب المحادثة التالية:


الطيار الإسرائيلي لغرفة عمليات الجيش الإسرائيلي: هذه سفينة أمريكية. هل ما زلت تريد منا أن نهاجم؟

غرفة عمليات الجيش الإسرائيلي للطيار: نعم، اتبع الأوامر.

الطيار الإسرائيلي لغرفة عمليات الجيش الإسرائيلي: لكن يا سيدي، إنها سفينة أمريكية - أستطيع رؤية العلم!

غرفة عمليات الجيش الإسرائيلي للطيار الإسرائيلي: لا يهم؛ اضربها.

كانت تتمنى أن يتم إغراق السفينة وجميع من عليها، ربما لاتهام مصر أو لأي سبب من الأسباب الجهنمية للقيادة الهمجية للجيش الإسرائيلي، لكن بما أن الأمر انكشف؛ قامت بالاعتذار وتقديم التعويضات بعد التأكيد على التغطية وعدم التعرض للموضوع بتوسع في الإعلام لحساسية الأمر! وتلقى الناجون الذين كانوا على متن السفينة أوامر حظر النشر تمنعهم من التحدث مطلقًا عما عانوا منه في ذلك اليوم. لكن في حفل ضيق ومغلق منح طاقم السفينة الميداليات، وما إلى ذلك، ووافقت إسرائيل على دفع تعويضات للعائلات بملايين الدولارات، من أين لها هذا؟ الإجابة كما يقول المثل: «من دهنه سقي له»، أي من الأموال التي تستلمها من حليفتها سنويًا؛ من أموال ضرائب المواطنين، وليس هذا فحسب بل دفعت أيضًا ثمن السفينة. يحق لها أن تدفع طالما أن الخارج ليس من جيبها! نعود بغض النظر عن كل الأدلة، يقال إن استخدام عذر «الخطأ في تحديد الهوية» هو وسيلة فعالة سياسيًا لإنهاء المناقشة! حقًا؟!

لماذا التحدث الآن عن واقعة قبل 57 عامًا؟! لأن «محرقة الخيام» في غزة وحسب الكيان الصهيوني المحتل، كانت «خطأ» في تحديد هوية المكان؟! «خطأ» في تنفيذ الأوامر؟! «خطأ» في عدم القضاء على كل من كان في المخيم؟! هو «خطأ»: «بس خلاص» وعلى العالم الغربي خاصة تقبل هذا وإنهاء المناقشة! فما يجب عليهم أصلًا هو ألّا ينسوا أنهم هم من ترك اليهود يحرقون على أراضيهم، وما يجب أن يستمر إلى يوم الدين هو أن يبكي الغرب بدلًا من الدموع دمًا، لا أن يفكر بالانحياز لشرذمة من الهمج تحت خيام ينصهرون! يجب على الغرب أن يدفع الثمن وأوله التغاضي؛ بإعطاء إسرائيل «كارد بلانش»!

الذي لم يعول عليه الكيان الصهيوني المحتل هو أن الزمان قد تغير وسقطت ورقة التوت عن السردية التي كانوا يمتلكونها ويدفعونها دفعًا في حلق الشعوب لاستنزافهم، لأن هذه الشعوب لم تعد تبتلع الطعم وليس لديها أي حرج من أن تحرجكم، فقط رأت وعايشت، وتبين لها بوضوح الهوية الحقيقية لــ«شرذمة من الهمج»! وعليه لم تصمت وانتفضت، قد يكون حق 34 من البحرية الأمريكية قد ضاع بالتنازل والتعتيم، لكن حق من سقط في غزة بإذن الله لن يضيع.