غدتِ الأزمةُ الأوكرانيّة، التي لا تَظهر في الأُفق حتّى الآن مؤشّرات نهايتها، بمثابة مُحفِّز لتحوّلاتٍ كبرى على المستويات الجيوسياسيّة والجيو اقتصاديّة، وفي اصطفافاتِ القوى على الساحة الدوليّة. وتتمظهر هذه التحوّلات بشكلها الأشدّ حدّة في أوكرانيا التي صارت أشبه ببرميلِ بارودٍ بالنسبة إلى أوروبا، على غرار البلقان عشيّة الحرب العالميّة الأولى. وبدَورها أصبحت أوروبا نفسها ذاك المدى الجيوسياسي والجيواستراتيجي الذي تتصادم فيه مصالح القوى العظمى.
مستويات الصراع وتداعياته
لدى مُقارَبة الصراع الدائر في أوكرانيا، يَرى المرءُ عادةً مستويَيْن لهذا الصراع: روسيا في مواجهة أوكرانيا من جهة، وروسيا في مواجهة الغرب عموماً، من جهة أخرى. نعتقد بأنّ هذه الرؤية لجوهر الصراع ليست دقيقة تماماً. فأوكرانيا بحدّ ذاتها ليست، في رأينا، سوى مجرّد ساحة، أو بالأحرى رأس جسر يُحاول الغرب من خلاله إنجاز مهمّته الرئيسة على الصعيد الدولي، المُتمثّلة بإزاحة روسيا بدايةً، ومن ثمّ الصين لاحقاً، بوصفهما الخصمَ الرئيس الذي يُهدِّد هَيْمَنَتَهُ وتسيُّدَهُ على العالَم. ومن هذا المنظار تُمثِّل الحربُ في أوكرانيا بالنسبة إلى هذا الغرب، الذي يقف على عتبة أزمةٍ سياسيّة واقتصاديّة ويدخل تدريجاً حقبةَ تراجُعِ مواقعه على الساحة الدوليّة وتزعزعها، الفرصةَ الأخيرة لتحقيق الهدف الرئيس الذي يكتسي أهميّةً وجوديّة بالنسبة إليه، أي هزيمة خصمَيْه الرئيسيَّيْن وإزالة خطرهما عليه، ولكن من دون الدخول في حربٍ مباشرة معهما. وقد بدأت تتجلّى أبرز انعكاسات الأزمة الأوكرانيّة على منظومة العلاقات الدوليّة في الأمور الآتية:
- محاولات الولايات المتّحدة الأميركيّة فرْض إرادتها في الصراع مع روسيا على المجتمع الدولي، وبالتالي تقسيم المجتمع الدولي بصورةٍ مصطنعة بين أنصار سياسة احتواء روسيا وكبْحها، والرافضين لهذه السياسة.
- بروز تكتّلات للقوى المُناهِضة أو الرافضة الانسياق وراء سياسة الإملاء الأميركيّة في السياسة العالَميّة والاقتصاد الدولي (مجموعة بريكس والتجمّعات الإقليميّة الأخرى).
- تصاعُد المُجابَهة بين الغرب الجماعي من جهة، والشرق الجماعي الذي هو في طور التشكُّل من جهةٍ أخرى، وبروز الجنوب العالمي كطرفٍ يُحاول تلمُّس دَوره ومَوقعه المستقلّ في حمأة هذا الصراع على أرضيّة السعي للتخلُّص من الهَيْمَنة الغربيّة.
- تصاعُد الجهود الغربيّة لإعادة تشكيل المدى السوفياتي السابق على نحوٍ يخلق حلقةً متكاملة من الأنظمة المُعادية لروسيا. وقد أَثمرت هذه الجهود في الغلاف الغربي لروسيا بانضمام جمهوريّات البلطيق إلى الاتّحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي، وفي أوكرانيا بقيام نظامٍ مُعادٍ كليّاً لروسيا، مع نجاحاتٍ نسبيّة في كلٍّ من مولدافيا وجيورجيا، وبوادر تحوّلات في هذا الاتّجاه في أرمينيا. وتُبذَل في الوقت نفسه جهودٌ مُضاعَفة لتقديم الإغراءات لجمهوريّات آسيا الوسطى السوفياتيّة السابقة لدفعها في الاتّجاه نفسه، لتَكتملَ الحلقة.
يجري ذلك كلّه في سياق التراجُع التدريجي في زعامة الولايات المتّحدة على الصعيد العالَمي، وبداية أفول الإمبراطوريّة الأميركيّة، على غرار ما شهدته الإمبراطوريّة البريطانيّة في حقبةٍ سابقة. ومن مظاهر تراجُع الهيْمَنة الأميركيّة: تنامي القدرات الاقتصاديّة لدول كبرى أخرى من خارج المنظومة الغربيّة (الصين، الهند.. وإلى حدٍّ ما روسيا على الرّغم من العقوبات)؛ بداية الخلل في النظامَيْن المالي والمصرفي العالميَّيْن اللّذَيْن نَشآ بهيْمَنةٍ أميركيّة عقب الحرب العالميّة الثانية، وكمحصّلة طبيعيّة لذلك تراجُع أهميّة الأسواق الماليّة العالميّة (الغربيّة)، مع انحسارٍ تدريجيّ، وإن بطيء حتّى الآن، لمركزيّة الدولار في تلك الأسواق وفي التجارة العالميّة، واهتزاز موقعه بوصفه عملة الصرف والتبادُل العالميّة؛ وأخيراً، ما تشهده القارّة الأفريقيّة من تطوّراتٍ تدفع في اتّجاه انحسار النفوذ الأميركي والأوروبي من بعض دول القارّة السوداء مع تقدُّمٍ للنفوذَيْن الروسي والصيني فيها.
في ظلّ هذه التحوّلات تسعى الولايات المتّحدة إلى استخدام الأزمة المُحيطة بأوكرانيا من أجل توحيد القوى الغربيّة في مُواجَهة دولة كبرى (روسيا) تُحاوِل النهوضَ واستعادةَ موقعها كدولةٍ عظمى. وتضْطلع بريطانيا، وبتفويضٍ أميركيٍّ واضح، بدَور رأس الحربة في دَعْمِ النظام في كييف، فتلعبُ ما يشبه دَور المُستشار المفوَّض ذي النفوذ في توجيه سياسات هذا النظام. وتنضوي الدولُ الأخرى الأعضاء في حلف شمالي الأطلسي والاتّحاد الأوروبي، وكذلك بلدانٌ أخرى كاليابان وأستراليا، في الحلف المُعادي لروسيا، مُلتزِمةً، من موقع التّابع، بالعقوبات الشاملة ضدّها (وإن كان على حساب مصالحها الخاصّة، الاقتصاديّة في الدرجة الأولى، في أغلب الأحيان)، ومقدّمةً الدَّعمَ العسكري والمالي والسياسي الشامل لكييف.
الاقتراب من العتبة النوويّة
مع اندلاع الحرب الإسرائيليّة على غزّة، وفي مُواجَهةِ ما يراه الإسرائيليّون وحُماتهم في الغرب من خطرٍ وجوديٍّ يتهدّد دولةَ إسرائيل والدَّور الذي تلعبه في الإقليم، بدا وكأنّ اهتمامَ الولايات المتّحدة وحلفائها تركّز بصورةٍ أساسيّة على توجيهِ الجهود لدعمِ الدولة الصهيونيّة وتقديم كلّ أسباب الصمود لها؛ ما أدّى، ولو من حيث الظاهر، إلى تراجُع الاهتمام نسبيّاً بالأزمة الأوكرانيّة. ولكن، في ضوء انتقال روسيا إلى مرحلة الهجوم السياسي والعسكري في خضمّ المواجهة التي تخوضها مع الغرب الجماعي، معطوفاً على النجاحات التي تُحقِّقها في الميدان الاقتصادي (بديهي أنّ العقوبات الشاملة التي فُرضت على روسيا أَلحقت بدايةً أضراراً واضحة بالاقتصاد الروسي وبقطاع الطّاقة في الدرجة الأولى، بيد أنّها لم تُحقِّق هدفَها الرئيس المتمثّل بشلّ هذا الاقتصاد الذي نجح إلى حدّ كبير في تجاوُز آثارها والنهوض مجدّداً، وذلك من خلال التوجُّه شرقاً وتنويع أسواق تصريف موارد الطاقة واستنهاض الموارد والطاقات الداخليّة الهائلة التي تملكها روسيا)، والتطوّر الكبير الذي يشهده المجمع الصناعي العسكري الروسي ونجاحه في مدّ الجبهة بكلّ أنواع الأسلحة، والتقدُّم الواضح الذي بدأ الجيشُ الروسي يُحقّقه على الجبهة في الأشهر الأخيرة، وكذلك مع تفاقُم الأزمات الداخليّة وصراعات مراكز القوى والخلافات التي أَخذت تَعصف بأـركان الحُكم في كييف (كان أبرز تجلّياتها إقالة قائد القوّات المسلَّحة الأوكرانيّة)، في ضوء ذلك كلّه عاد الاهتمام الغربي بالحليف الأوكراني إلى سابق عهده، فتجاوَز الديمقراطيّون والجمهوريّون في الكونغرس الأميركي خلافاتهم حول مستوى الدَّعم لكييف وحجمه، وأقرّوا حزمةَ مساعداتٍ ماليّة جديدة، وتصاعدتِ الدعواتُ في الاتّحاد الأوروبي لتقديم المزيد من الدَّعم التسليحي لها، وتزايدت التلميحات باحتمالات إرسال قوّاتٍ من دولٍ أوروبيّة وتابعة لحلف شمالي الأطلسي، وإن بصورة غير رسميّة، إلى ميدان القتال، وتصريحات مسؤولين غربيّين ﺑ "مشروعيّة" استخدام الأسلحة الغربيّة ذات المديات البعيدة والتي تمّ تسليمها لكييف في ضرب أهداف استراتيجيّة في العُمق الروسي.
لقد دفعتِ الحربُ الأوكرانيّة الولاياتِ المتّحدة والدولَ الأوروبيّة، إلى اعتبار أنّ الخطر الروسي أصبح داهماً، وأنّ مرحلةَ الانفراج والتعايُش السياسي والتعاون الاقتصادي مع روسيا قد ولَّت إلى غير رجعة. ورأت هذه الدول أنّ التراخي في بناء الجيوش الأوروبيّة، والذي ساد في حقبة ما بعد تفكُّك الاتّحاد السوفياتي مع أوهام ما سُمّي "نهاية التاريخ"، صارَ يُشكِّل بحدّ ذاته تهديداً لأمنِ أوروبا. لذا، لا بدّ من إعادة بناء هذه الجيوش وتعزيز قدراتها لصدّ أيّ هجومٍ روسيٍّ مُحتمَل، سواء بالأسلحة التقليديّة أم بالأسلحة النوويّة. ﻓ "الخطر الروسي" أمسى بالنسبة إلى هذه الدول خطراً وجوديّاً يمسّ بالأمن الأوروبي عموماً، ولا بدّ من مواجهته بكلّ الوسائل المُتاحة. وهذا ما يُفسِّر ردودَ الفعل المفرطة في تشدّدها (والتي يصفها الروس بالعدوانيّة) على دخول روسيا الحرب ضدّ أوكرانيا، والعقوبات السياسيّة والاقتصاديّة التي لا مثيل لها التي اتّخذتها ضدّها، والدَّعم السياسي والمالي والتسليحي المُطلَق الذي قدّمته وتقدّمه لكييف، بحيث بدا وكأنّها تتّجه نحو القطيعة التامّة مع موسكو. كما أنّ "الخطر الروسي" على الأمن الأوروبي هو ما يُفسِّر أيضاً الدَّعمَ المُطلَق الذي تقدّمه الحكوماتُ الأوروبيّة، أو غالبيّتها، لإسرائيل في حربها على غزّة وفلسطين عموماً، مُتجاوزةً كلّ الانتقادات (ولو الخجولة) لبعض جوانب السياسة الإسرائيليّة تجاه الفلسطينيّين (الاستيطان في الضفّة الغربيّة، على سبيل المثال). فالمعركة واحدة في نظر هذه الحكومات، وإسرائيل، كما كييف، هُما اليوم بمثابة الحليف الطبيعي في مواجهة "محور الشرّ" الذي تَقف موسكو على رأسه.
كان ردُّ موسكو على تصاعُد التهديدات الغربيّة العدائيّة ضدّها، فضلاً عن تصعيد العمليّات العسكريّة في شرق أوكرانيا، إعلان حالة الاستنفار الفعليّة في منظومات الأسلحة النوويّة التكتيكيّة، بناءً لأوامر الرئيس بوتين بعد تولّيه منصبه مجدّداً ﺑ "توجيه القوّات النوويّة غير الاستراتيجيّة لتنفيذ مهمّات قتاليّة"، في ما بدا وكأنّه رفع عصا التحدّي في وجه تلك التهديدات والتقدُّم خطوة إضافيّة نحو حافّة "العتبة النوويّة"، وأشبه بتدشين برنامج عمل استراتيجي ذي طابعٍ هجومي، في ما اعتبره بعض المُراقبين عنواناً أساسيّاً للسنوات الستّ المقبلة من عهد بوتين.
مَن يُراقِب المواجهة الروسيّة - الغربيّة على الساحة الأوكرانيّة يرى وكأنّ الصراع دخلَ، في هذه اللّحظة، في ما يُشبه الصدام غير القابل للمساوَمة. إنّه انسدادُ الأفق، حيث لا مجال للحلول الوسط. فكلا الطرفَيْن يرى في التوقّف في منتصف الطريق أو في تقديم ولو حدٍّ أدنى من التنازل، هزيمةً غير قادر على تحمُّل تداعياتها. فالتوقّف عن دعْمِ كييف بالنسبة إلى الغرب، أو تقليصه، يعني بالنسبة إليه انتصاراً لروسيا يكرّسها دولةً عظمى يستحيل كبْحها، وهو ما لا طاقة للغرب، ولأوروبا على وجه التحديد، على تحمّله. أمّا بالنسبة إلى روسيا، فإنّ التنازُل والتراجُع عن تحقيق أهدافها المُعلَنة، يعني بالنسبة إليها هزيمةً نكراء تقود حتماً إلى خسارتها استقلالها وسيادتها وبالتالي تفكّكها إلى دويلاتٍ عديدة متصارعة وتابعة غير قابلة للحياة، ويسهل ابتلاعها. هنا يكمن مغزى ما قاله الرئيس بوتين في احتفال عيد النصر في التّاسع من أيّار(مايو) الماضي، ﺑ "أنّ روسيا تمرّ اليوم بمرحلة مفصليّة، ومصيرها ومستقبلها يتوقّفان علينا جميعاً"، وأضاف بأنّهم (أي الغربيّين) "لن يُخيفوننا مهما فعلوا". هذا الخوف على مصير روسيا هو ما يُفسِّر درجةَ التحدّي العالية الذي ترفعه روسيا في وجه خصومها اليوم، ويفسِّر بوضوح أكبر ما قاله بوتين في وقتٍ سابق حين سُئل عن مخاطر نشوب نزاعٍ نووي على مصائر العالَم، وعلى بقاء روسيا نفسها، فأجاب: "ما نفْع العالَم إذا لم تكُن روسيا موجودة فيه"!
*كاتب ومُختصّ بالشؤون الروسيّة
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.