وهي الفترة التي استطاع فيها الشعر الشعبي أن يتخلص من حالة الانكماش والتوجسات والانكفاء على الذات داخل النسق الشعري الشعبي ويكسر طوق العزلة، ويقتحم ميدان الإبداع الفني، ويتداخل مع الفكر الجمالي، ويضع تعريفاً جديداً للشعر، يقوم على عولمة وإنسانية الشعر، فليس هنالك شعر إسباني أو شعر صيني أو عربي أوروسي أو إيطالي أو ياباني أو هندي... فالشعر واحد، فقد كان الشاعر والفيلسوف الألماني جوته يقر بعالمية الشعر، فالذي يحكم الشعر الموهبة فمن دونها لا يمكن أن يكون الإنسان شاعراً، قد يتقن التكنيك فيصير ناظماً، ولكنه لن يصير شاعراً أبداً.
فلو راجعنا المصادر الغربية، في تحديد مصطلح ومفهوم الشعر، لوجدناها تختلف اختلافاً كبيراً عن المصادر العربية، إذ إن الواقع الحضاري الغربي حسم كثيراً من المصطلحات الإنسانية المشتركة وأعطاها بعداً عالمياً وإنسانياً، يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير «إذا أردت أن تتحدث معي، فعليك أن تحدد مصطلحاتك ومفاهيمك».
وإن كان كتاب أرسطو «فن الشعر» وضع أول محاولة لتعريف الشعر تتمثل في «تجسيد الشاعر للواقع بصورة أفضل من الواقع».
فالذي يطلع عن قرب على واقع الأدب العالمي، ينتهي إلى أن أصل الشعر واحد، ودوره وغايته واحدة، وأنه من حق الشاعر أن يختار أداته الخاصة للتعبير عن عالمه الخاص.
ولكن لم يكن الأمر دائماً على هذه الحال مع الشعر الشعبي فقد كان طريق الشعر الشعبي مليء بالعقبات، يفتقر إلى الإسناد المعنوي، فقد كان معزولاً عن السياق الثقافي أو بالأحرى البيئة الثقافية التي ولد فيها وعن محيطه الحيوي ولذلك انفصلت علاقة الشعر الشعبي بالمجتمع الثقافي.
هذا الانفصال الحاد بين الشعر الشعبي والواقع الثقافي نشأ، على حد وصف مناوئيه، بوصفه شعراً يفتقر إلى الوعي الثقافي والقيمة الحضارية وأنه يقع في مكان ما خارج الواقع الحضاري، وأنه شعر أصابه التحجر وأدار ظهره للمستقبل.
هذا الفهم الخطأ للشعر الشعبي هو المسؤول عن اللبس الحاصل في علاقة الشعر الشعبي بالسياق الأدبي، والبيئة الثقافية.
لقد اضطرب مفهوم الشعر الشعبي عند بعض المثقفين حتى غدت صورة الشعر الشعبي في الأذهان مجرد مجموعة من القواعد ولتقاليد الجامدة باعتباره شعراً يفتقر إلى اللغة الشعرية الكلاسيكية وهذا خطأ منهجي لا يستند إلى أساس موضوعي.
المحزن في مسلك الخطاب الثقافي أنه يتنزل على العامة من هياكل الثقافة بالهالة والفوقية التي صنعها حول نفسه.
فقد نصبت الفئات الثقافية نفسها كممثلة للبيئة الأدبية وحاكمة عليها.
يترتب على ما سبق سؤال مهم:
أليس من حق الشاعر أن يتحدث عن وجدانه الخاص ويختار أداته الخاصة التي تعبر عن عالمه الخاص، فلكل فنان سواء كان شاعراً أو غير شاعر أداته الخاصة التي يعبر بها عن عالمه المتفرد.
«وأنا هنا لا أتحدث عن الحق الأصلي الذي يكفل للشاعر أن يعبر عن نفسه ابتداء ولكنني أتحدث عن العامل الإبداعي الذي صار من حق النقاد أن يقيموه وأن يصدروا عليه أحكامهم فالنقد المستنير يعين على الإبداع الفني فالناقد يتفاعل أولاً مع بيئته الثقافية وثانياً مع الإبداع الفني الذي تفرزه هذه البيئة ويأتي موقفه النقدي نابعاً من فهمه للسياق الثقافي وفهمه للفن وفهمه لدوره.»
فالموقف النقدي أو الثقافي يوجب على الناقد أو المثقف أن يتفاعل مع بيئته الثقافية مع أصولها وخصوصياتها وحاجتها وتطلعاتها ومع الإبداع الفني الذي تفرزه هذه البيئة أياً كان شكل هذا الفن سواء كان شعراً شعبياً أو شعراً حديثاً أو تقليدياً.
ولكن كل هذا صار الآن ماضياً بالنسبة للشعر الشعبي فقد كسر الشعر الشعبي الحاجز الثقافي وأشكال القيود التي تفصله عن البيئة الثقافية، فقد تمكنت لغة الشعر من أن تجتاز ضيق الأفق الثقافي الذي كان عليه الشعر الشعبي في عصور مضت، وصياغة أسلوب جديد ينسجم مع العصر، ساعد في دخول أصناف وموضوعات جديدة، واكتشف مجالات جديدة.
فعندما نقف على واقع الشعر الشعبي في الآداب العالمية، نجد مثلاً الروائي ومؤرخ الفن بوركر يضع الشعر الشعبي في أعلى درجات سلم الأدب.
والشاعر والفيلسوف هردر يرى: أن الشعر الشعبي يمثل أصالة الفن، لتميزه بالخيال والروعة وقوة التخيل.
لقد كشفت السنوات التي تلت الثمانينيات عن النضج الكامل للشعر الشعبي في بناء الصورة الشعرية، وتطور الفن الشعري، والأساليب التعبيرية الجديدة.
في عام 1982م نشرت على حلقات في صحيفة «الجزيرة» المسائية دراسة أدبية حول موقف الجامعات من الشعر الشعبي. كما نشرت دراسة أدبية تناولت فيها علاقة المثقفين بالشعر الشعبي.
وقدمت قراءة أدبية موضوعية في قضايا وموضوعات الشعر الشعبي، وحوارات أدبية استطلع منها موقف الأدباء والمثقفين والمفكرين من الشعر الشعبي.
وفي 2001 نشرت كتاب «مدن الشعر» وقد أثار الكتاب ضجة في الوسط الشعري، ويبدو أنه لامس وتراً حساساً عند بعض الأدباء واللغويين الذين يقفون موقفاً مناوئاً من الشعر الشعبي.
كان الكتاب مجرد محاولة لفهم واقع الشعر الشعبي، محاولاً أن أفتح أفقاً معرفياً يعين على فهم موضوعاته وقضاياه ويفسر ظاهرته.
ذلك أن مخاض الإبداع الشعري في تلك السنوات التي رافقت نشر الكتاب بلغ ذروته وكانت الظروف مرحبة بالنتاج الشعري، وإن كان الشعر الشعبي يعاني نقصاً في مجال الدراسات والتأليف بصورة عامة ففي مجال التأليف فقد انشر محمد بن بليهد، في الخمسينيات الميلادية، مؤلفاً أدبياً تناول في أحد فصوله حالة الشعر الشعبي في جزيرة العرب وقد اعتبره بعض النقاد أحد أهم مصادر الشعر الشعبي.
وفي الستينيات الميلادية نشر عبدالله بن خميس كتاب «الأدب الشعبي في جزيرة العرب»، تبعه محمد العبودي وسعد بن جنيدل في دراسات تقترب من الشعر الشعبي.
وإن كنت أرى أن كتاب خالد الفرج «ديوان النبط» ودراسات جورج أوغست أولين، التي كتبها أثناء إقامته في منطقة الجوف ونشرت في مجلة الجمعية الألمانية للاستشراق ودراسات يوهان جوتغريد فيتشتاين «ملامح لغوية من مضارب البادية السورية» و«تاريخ نجد في عصور العامية» لأبي عبدالرحمن بن عقيل ودراسة الدكتور غسان الحسن «الشعر النبطي في منطقة الخليج والجزيرة العربية» ودراسات شفيق الكاملي «الشعر عند البدو» تمثل مصادر رئيسة لدراسات الشعر الشعبي يضاف إليها كتاب «الشعر النبطي ذائقة الشعب وسلطة النص» وكتاب «تداخل التاريخي والأسطوري في المرويات الشفهية» للدكتور سعد الصويان ودراسة الدكتور حسن نعمة، التي تطرق فيها إلى المراحل الزمنية التي مر بها الأدب الشعبي.
وباستثناء تلك المؤلفات والدراسات فإن ما نشر في الـ60 عاماً الماضية في النقد وتاريخ الأدب الشعبي لا يتجاوز الـ20 مؤلفاً وهو عدد قليل نذكر منها:
تراثنا من الشعر الشعبي حمد أبو شهاب.
من أعلام الشعر الشعبي: سعد بن جنيدل وهو عبارة عن دراسة أدبية لبعض الشعراء الشعبيين.
حكايات من الماضي: محمد بن زبن بن عمير حكايات واقعية تحكي شيئاً من الماضي.
مأثورات شعبية: محمد العبودي وهو عبارة عن أمثال وحكم وقصص وحكايات.
الملحمة الزائدية وكتاب أبطال من الصحراء: الأمير محمد الأحمد السديري.
من آدابنا الشعبية: منديل الفهيد.
من نوادر الأشعار: عبدالله بن سعود الصقري وهو مختارات من الشعر النبطي في الجزيرة العربية.
كنز من الماضي أشعار ومواقف من البادية: شاهر محمد الأصقه.
قصة وأبيات: إبراهيم اليوسف.
ابن لعبون حياته وشعره: يحيى الربيعان.
شاعرات من البادية: عبدالله بن رداس.
مختارات من شعراء الحريق: عبدالعزيز بن شنار
حميدان الشويعر: د. عبدالله الفوزان.
نجد في الأمس القريب: عبدالرحمن بن سويداء.
تراث الأجداد: محمد القويعي.
الشعر النبطي في وادي الفقي: أحمد الدامغ.
أما في مجال الدراسات فقد كان الأدباء الصينيون في الماضي يضعون قيوداً على الشعر الشعبي إلا أن هذا الموقف تغير وصارت جامعة بكين تتوسع في دراسات الآداب الشعبية وأصبحت الروايات والأشعار الشعبية تقتحم برامج الدراسات الأدبية.. ولقد كان للأدباء الصينين إنجازهم الباهر في دفع الشعر الشعبي إلى الواجهة.. وإلى جانب جامعة بكين يوجد عشرات الجامعات في الغرب فمثلاً جامعة برنستون الشهيرة تدرس الآداب الشعبية ضمن قسم دراسات الشرق الأدنى وجامعة إنديانا الحكومية في وسط الشرق الأمريكي تعتبر من أوائل الجامعات التي تهتم بالدراسة الشرقية، وجامعة كولومبيا في نيويورك، وجامعة واشنطن الحكومية، وجامعة جورج تاون في العاصمة واشنطن، وفي غرب أوروبا تأتي أكسفورد والسوربون في طليعة الجامعات التي تعنى بالفلكلور والآداب الشعبية.