تحت عنوان «فرانز فانون الذي لا غنىً عنه Frantz Fanon Indispensable «، نقلت دوريّة «كورييه أنترناسيونال» الفرنسيّة في عددها رقم 1742 الصادر في 21- 27 مارس 2024، مقالةً للكاتب والمُحرِّر المُشارِك في الدوريّة البريطانيّة «London Review of Books» آدم شاتز Adam Shatz ، نُشِرت بتاريخ 2 فبراير 2024. قدَّمت الدوريّةُ الفرنسيّةُ المقالةَ بالإعلان عن بيوغرافيا لشاتز رأت النور في 21 مايو الجاري عن عالِم النّفس والمنظِّر للنضال السياسيّ وإنهاء الاستعمار المارتينيكيّ فرانز فانون. وفيها يشرح الصحافيّ الأميركيّ آدم شاتز رؤيته لهذه الشخصيّة.

رمزٌ حقيقي

ليس من المفاجئ أن يكون اسم فانون قد استُحضر خلال المُناظرات الكثيرة التنوُّع بمقدار تنوُّع أشكال عدم الاستقرار أو الأمان لدى الأشخاص من ذوي البشرة السمراء، واستعادة النّتاج الأفريقيّ، وأزمة اللّاجئين أو الهجمات القاتلة لحماس في إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023. لم يكُن نِتاج فانون قد ذُكر بهذا التكرار وذلك الإلحاح منذ نهاية سنوات الستّين، أي في الفترة التي كانت فيها حركةُ «الفهود السود»، وكان الثوّار الفدائيّون، والثوّار الأميركيّون- اللّاتينيّون يَستوحون نماذجهم من كتابه: «معذّبو الأرض Damnés de la terre»»؛ وهو بيان فرانز فانون المُناهِض للاستعمار الذي ظهرَ في العام 1961.


في ذلك الوقت، كان فانون من صِغار المشاهير في صفوف اليسار الراديكالي. واليوم هو رمزٌ حقيقي. يقوم الفنّانون والجامعيّون والناشطون والمُعالجون داخل اليسار باستخدام كتاباته من أجل استخراج صيغٍ أو معادلاتٍ جذّابة (وهي عديدة) حول التأثيرات النفسيّة لسيطرة البيض، والتمثيلاتِ الخاطئة والعنصريّة لجسدِ الأشخاص ذوي اللّون الأسود، ودلالة الحجاب الإسلامي، وغَضب المُستعمَرين، والعنف الاستعراضي للقوى الإمبرياليّة. لكنّ اليمينَ الراديكالي مفتونٌ هو أيضاً بعمله [ولاسيّما في فرنسا]، وذلك منذ وقتٍ طويل: الكاتب رينو كامو Renaud Camus ورجل السياسة إيريك زمور Éric Zemmour، المُدافعان عن نظريّة الاستبدال العظيم grand remplacement العنصريّة، هُما من قرّاء فانون.

بعد مَقتل جورج فلويد George Floyd‏ [ في مايو 2020 على يد شرطيّ أبيض من شرطة مينيابوليس في الولايات المتّحدة الأميركيّة]، رفعَ المتظاهرون لافتاتٍ تَستعيد اقتباساً لفرانز فانون مُستخرَجاً من «بشرة سمراء، وأقنعة بيضاءPeau noire, masques blancs «، وهي دراسة عن العنصريّة نُشرت في العام 1952 عندما كان في السابعة والعشرين من عمره، والتي يُثبت فيها أنّ المظلومين يثورون عندما لا يعود بوسعهم أن يتنفّسوا. منذ السابع من أكتوبر، والاحتفاءُ بفانون قائمٌ من قِبَلِ الطلّاب الفلسطينيّين ومُستنكَرٌ من قِبَلِ منتقديهم، لأنّه يُدافع عن عنف المظلومين في الفصل الأوّل من «مُعذّبو الأرض».

تَحاشي الكاريكاتور

يبدو أنّ المُشترَكَ بين عددٍ كبيرٍ، وحتّى أغلبيّةٍ من المُعجبين بفانون ومُعارضيه المُعاصرين، هو كونهم لم يقرؤوا أبعد من الفصل الأوّل من كِتابه. فقد صَنعوا من هذا المفكِّر المُعقّد والصارم مجرّد مؤيّدٍ ومُناصِرٍ للعنف الثوريّ بكلّ الوسائل المُتاحة؛ صَنعوا منه مالكوم إكس Malcolm X الفرانكوفونيّة (مالكوم إكس أو ملكوم ليتل أو الحاجّ مالك شباز، هو داعية إسلامي أميركي أفريقي مُدافع عن حقوق الإنسان، ومناضل من أجل العدل والمساواة، وُلِد في العام 1925 وتوفّي في العام 1965 - المُترجِمة). أو بشكلٍ أدقّ، صنعوا منه كاريكاتوراً كذلك الذي اختُزل فيه ملكوم إكس، شأن ما هو عليه الحال مع ثوّارٍ سودٍ غيره.

وُلِد فرانز فانون في العام 1925 في ظلّ نظامٍ كولونيالي أو استعماري. الكلمات الثلاث الأولى التي تعلَّم كتابتَها هي: «أنا إنسانٌ فرنسيّ». وحينما وقعَت المارتينيك في قبضة فيشي، فرَّ من الجزيرة لخدمة فرنسا الحرّة. أُصيب خلال قتاله في فرنسا، ورأى نفسه حائزاً على وسام صليب الحرب.

لكنّ مشاركته في الحرب جرَّدته من كلّ وهْمٍ حول الوطن الاستعماري. وإذا كانت له وضعيّة الأوروبيّ الفخريّ، مثل كلّ الهنود الذين التحقوا بالمُقاومة، فإنّ الأفارقة والعرب حُكِم عليهم بالدونيّة. جاءت ردّة فعل فانون على هذه التجارب الأولى القاسية للعنصريّة بتمجيد هويّته السوداء، وذلك قَبْلَ إنكار الإيديولوجيّة العنصريّة ورفْضِها لمصلحة مُناهَضةٍ راديكاليّةٍ للإمبرياليّة.

كان فانون ابن الامبراطوريّة الذي قاتلَ من أجل فرنسا خلال الحرب العالميّة الثانية، ثمّ انقلبَ عليها في الجزائر. كان هنديّاً علمانيّاً من ضمن حركةِ تحريرٍ يقودها مُسلمون، وكان مثقّفاً مُجدِّداً وأنيقاً استحوذَ على إعجاب جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار.

حياته سينمائيّة كحياة مالكوم إكس. كانت لديه أيضاً موهبة الخطابة الاستفزازيّة، الغنيّة بإيقاعات الشِّعر الهندي الذي قَرأه في صباه. ونحن مدينون لفانون ببعض الشِّعارات التي لا تُنسى في النضالات من أجل تقرير المصير الوطني التي شهدتها ستّينيّات القرن الفائت: « أوروبا، حرفيّاً، هي من ابتكار العالَم الثالث». «الإنسان المُستعمَر يتحرَّر بالعنف ومن خلاله». «هيّا أيّها الرفاق، اللّعبة الأوروبيّة انتهت حُكماً، يجب إيجاد شيء آخر».

لكن، إذا كانت هذه الشعارات قد استَعادت هالَتَها المُعاصرة (وجَعلتْ من فانون محبوبَ مُغنّي الرابّ الفرنسيّين)، فإنّها أفضت أيضاً إلى تفسيرٍ مبسّط أو محدودٍ للغاية لحياته وإرثه.

فانون الذي لم يكُن داعيةً موهوباً فحسب، كان في الوقت نفسه مُدافعاً عن إنهاء الاستعمار وواحداً من مُراقبيه الذين يتمتّعون برؤيةٍ ثاقبةٍ جدّاً. كان، ولا شكّ في ذلك، مؤيّداً للكفاح المسلَّح ضدّ المُستعمِرين، لكنّه كان يوكّد على أنّ النظام الاستعماري نفسه قائمٌ أو مبنيٌّ على أفعالٍ وأعمالٍ عنفيّة، وأحياناً على أعمالِ إبادةٍ جماعيّة، لانتزاع الملكيّة والقمع. عُنف المُستَعمَرين كان ردّة فعل: لم يكُن مولوداً من العدم. وبصفته كطبيبٍ نفسيّ، كان فرانز فانون مُقتنعاً بأنّ للكفاح المسلَّح فوائدَ علاجيّة، وذلك بما يُتيحه للمُستَعمَرين من قدرةٍ على تجاوُز الذهول واليأس المفضيَيْن إلى الشَلل، واللّذَيْن يتسبَّب بهما القهرُ الاستعماريّ، لكي يُصبحوا بذلك أسيادَ مصيرهم.

على الرّغم من كلّ ما تقدَّم، لم يَضَع فانون أشكالَ العُنف المُناهِض للاستعمار كافّةً في سلّةٍ واحدة: فكان يَنتقد الثوّار الجزائريّين الذين ارتكبوا فظائع «بسبب الوحشيّة التي تكاد تكون فيسيولوجيّة والتي يولِّدها ويرعاها القمعُ المُستمِرّ منذ قرون».

وفي الفصل الأخير من «مُعذَّبو الأرض» المُعنوَن بـ» الحرب الاستعماريّة والاضْطرابات النفسيّة»، والذي يتضمّن دراساتِ حالاتٍ حول ما نُسمّيه اليوم اضْطرابات ضغوط ما بعد الصدمة، قَرأ فانون أو توقَّع أنّ تُلقي الآثارُ النفسيّة لعنف الاستعمار وللعنف المُناهِض للاستعمار بثقلها على مُستقبل الجزائر. الجنديّ كان يرى السلاحَ كجزءٍ أساسيّ، لا مفرّ منه، من تاريخ مُناهَضة الاستعمار؛ من خلال رعايته وصَونه كان يخاف ويخشى الحروب الداخليّة المُقبلة.

معذّبو الأرض

إذا كان الهدفُ الأساس للنضال الجزائري قد تَمثَّل بتحرير البلاد من السيطرة الفرنسيّة، فإنّ فانون رأى ضرورةً في أن تَفتح جبهةُ التحرير الوطني الجزائريّة أبوابَها إلى أيٍّ كان من الذين يتبنّونها، بما في ذلك الأوروبيّون من أصحاب الضمير. هويّات «المُستعمِر» و»السكّان المحلّيّين» لم تكُن هويّاتٍ ثابتة وفطريّة: كانت من صناعة الاستعمار وستختفي باختفائه. كما كتبَ فانون أنّ المُستعمَرين سيكتشفون «الإنسان الكامن خَلف المُستعمِر».. والعكس صحيح؛ وأنّ «الكراهيّة لا يُمكنها أن تشكِّلَ برنامجاً».

ليس هناك من قَدَر. الواقع كان أقلّ توهُّجاً. عددٌ قليلٌ فقط من الأوروبيّين التحقوا بالنضال من أجل الاستقلال. الغالبيّة منهم ساندت الوجودَ الفرنسيّ واعتبرتْ أنّ القمعَ الوحشيَّ من قِبَل الجيش الفرنسي هو حرب ضروريّة ضدّ «الإرهاب».

هذا الوضع أضرَّ كثيراً باحتمال قيامِ تعايُشٍ بين مُسلمين وأوروبيّين في ظلّ جزائر مُستقلَّة. وكما اكتشفَ فانون عندما كان المتحدّث الرسمي باسم جبهة التحرير الوطني في تونس، كان حلفاؤه التقدّميّون في الجبهة أقليّة، وكانوا مُتجاوَزين في العدد والسلاح من وطنيّين عرب وشعبويّين إسلاميّين ذوي ميولٍ أكثر سلطويّة.

على الرّغم من أنّه كان شاهداً على التعصُّب والعنف اللّذَيْن كانا سائدَيْن داخل جبهة التحرير الوطني، استمرّ في أن يكون جنديّاً مُلتزِماً وداعِماً الخطّ الرسمي. لكنّه في «معذّبو الأرض» كان يخشى ألّا يُفضي التحريرُ الوشيكُ للجزائر وللقارّة الأفريقيّة إلى حريّةٍ حقيقيّة للمظلومين، وذلك بمقدار ما كانت «البرجوازيّة الوطنيّة» الجشعة والفاسدة تُطوِّق وتُعرقِل قيامَ ثورة اجتماعيّة أكثر طموحاً.

في كتاباته وعمله كطبيبٍ نفسيّ، قدَّم فانون رؤيةً ثوريّةً حول ما كان يُسمّيه «نَزْع الاستلاب»: التزام حيال الحريّة الجمعيّة والفرديّة؛ وهو التزامٌ تحدّى، في بعض الجوانب، القضيّةَ التي تبنّاها هو نفسه. فليس من المُستغرب أن يكونَ محطَّ إعجابٍ من قِبَلِ المثقّفين الشباب في الجزائر اليوم، حيث يَشعر الجمهورُ بالاختناق بسبب النظام السلطوي، والسلطة الغامضة التي تحتفظ إلى اليوم بالسيطرة على البلاد.

بالنسبة إلى فانون، «القفزة الحقيقيّة تتمثّل بإدخال الاختراع أو الابتكار إلى الوجود»، وهو الأمر الذي كان يبدو له جزءاً لا يتجزّأ من القفْز نحو الحريّة ولا يُمكن فصله عنها. اليوم تبدو فكرة القفزة فوق القضايا العنصريّة والإتنيّة والدّينيّة غريبة وخياليّة، حتّى أنّها غير مُستحَبّة أو غير مرغوب بها لدى البعض. لكنّ فانون كان مُقتنعاً بأنّ المُعتقلات والسجون العنصريّة والاستعماريّة التي كان ملايين الرجال والنساء مُحاصَرين أو محشورين فيها، أَنشأها البشرُ ويُمكن هدْمُها من طَرَفِهم. من أجل الحريّة والكرامة

لم يقُم أحدٌ بتسليطِ الضوء على العالَم الخيالي للعِرق وللاستعمار – الطُّرق التي أثَّر فيها القمع في نفسيّة السكّان- بتلك القوّة السوداويّة للغاية كما فعلَ فرانز فانون. إنّه السبب الرئيس لشعبيّته الحاليّة. لكنّه كان، وللمُفارَقة، متفائلاً، وهذا ما يُميّزه بوضوح عن مفكّري اليوم ومُناضليه الراديكاليّين.

بالنسبة إلى ضحايا العبوديّة والاستعمار، كان التاريخ قاسياً، لكنّ ذلك لم يُشكّل برأيه قدراً:» أنا لستُ عبداً للعبوديّة التي جرّدت آبائي من إنسانيّتهم» يقول في «بشرة سمراء، وأقنعة بيضاء». يكمن أملُهُ في قدرة الإنسانيّة على الولادة من جديد وعلى الابتكار، وفي قدرة التاريخ على اتّخاذِ بداياتٍ جديدة.

في وداعه أوروبا في ختام «معذّبو الأرض»، حَلَمَ بإنسانيّةٍ جديدة مُتحرِّرة من الاستعمار ومن الإمبراطوريّة: « نحن لا نريد اللّحاق بأحد، بل نريد أن نمشي طوال الوقت، ليلَ نهار، بصحبة الإنسان، بصحبة جميع البشر».

إنّه الإصرارُ على الصراع من أجل الحريّة والكرامة في وجه القمع، وهي القناعةُ بأنّه ذات يومٍ «سيُصبح مَن هُم في الخلف في المقدّمة أو الأُوَل» في وَسْمِ كتابات فرانز فانون بقوّتهم النّابضة بالحياة.

*ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية.