قضيت أيامًا ممتعة بصحبة اللاهوتي الشهير هانز كونج، عبر قراءة متعمقة لكتاباته، ومنها كتاب «القيم الأخلاقية المشتركة للأديان.. الإسلام رمز الأمل»، ووجدت فيه ما يستحق التنويه عنه، ولهذا كتبت مقالي.

الدكتور هانز، مات قبل 3 سنوات، عن 93 عامًا، ويعد من أشهر اللاهوتيين الذين وجهوا انتقادات حادة للكنيسة الكاثوليكية، ومن أشهر المنادين بالسلام بين الأديان باعتباره مدخلا للسلام العالمي، ومن المستشرقين الكبار الذين أظهروا احترامًا عظيمًا لديننا الإسلامي، وللنبي الأكرم، صلى الله عليه وسلم، وكان قريبًا من الإسلام، لفترات طويلة، وطالما كان يؤكد أن القرآن نص من السماء، وأن «نبيّ الإسلام نبيٌّ حقيقي بمعنى الكلمة، ولا يمكنُنا إنكارُ أنَّه المرشدُ القائدُ على طريق النجاة»، وكان قد بدأ التدين صغيرًا، وعود نفسه على الحوار والتفكر، والتأمل والتسامح، ما مكنه من التعبير عما يريده باستقلالية ووضوح، ولو أدخله ذلك في صراعات مع الرافضين للتغيير، من المحافظين المتدينين، الذين اعتبروه تهديدًا للكنيسة، والكاثوليكية بالخصوص.

من أكثر ما لفتني في سيرة ومسيرة هذا الفيلسوف الكبير، فكرة «الأخلاق العالمية» عنده، وانفتاحه على الأديان، وفي مقدمتها الإسلام، وكدليل على ذلك ترديده الدائم أنه «لا سلام في العالم من دون السلام بين الأديان»، واقتراحه الرائع بتشكيل «برلمان أديان العالم» كخطوة لتحقيق الحوار الفاعل بين الأديان، وعن هذا قال: «لا استمرارية إنسانية دون أخلاق كونية، ولا سلام عالمي من دون سلامٍ ديني، ولا سلام ديني من دون الحوار بين الأديان». ولم يترك الدعوة إلى تفعيل منهج الحوار بين أهل الأديان، لإيجاد صيغ جامعة تقلص الهوّة بين الإيديولوجيات المختلفة، وتصنع أرضية مشتركة لقيم جامعة تسهم في إرساء التعايش السلمي، ونبذ العنف، وفي سبيل ذلك أصدر كتابًا مهمًا عنوانه (لماذا مقاييس عالمية للأخلاق؟)، وكتابًا آخر بعنوان (مشروع أخلاقي عالمي، دور الديانات في السلام العالمي). وكان صريحًا جدًا، وهو ينتقد الغرب بسبب اهتمامهم بالعلم وإهمالهم الحكمة، واهتمامهم بالتكنولوجيا وإهمالهم للجوانب الروحية، واهتمامهم بالصناعة وإهمالهم لعلم البيئة، واهتمامهم بالديمقراطية وإهمالهم للأخلاق العالمية، وتغافلهم وإغفالهم أن الإنسان هو الهدف النهائي، وأنه الغاية والمقياس.


أختم بأن المسلمين قبل غيرهم، اليوم بل وكل يوم، وفي الداخل قبل الخارج، في حاجة ماسة للبحث المستمر عن الحقيقة، بطريق العلم والبصيرةِ، لا بطريق التقليدِ الأعمى، والمُحاكاة الجوفاء، وفي حاجة لتقديم نموذج صادق وعملي في تجديد الخطاب الديني، وإخراجه من دائرة الحصر والجمود والنمطية إلى آفاق أرحبَ من العقلانية والواقعية، وفي حاجة إلى خطابٍ شديد التهذيب والوقار والواقعية والمنطقية، وعدم رمي الآخرين بالتهم، والتحريض المستتر عليهم، وإيذائهم في مصالحهم، واتخاذ الدين وسيلة للتكسب، وتغطية الأحقاد. وأنا هنا لا أقصد إلا «خبثاء النفس»، كالذين يستغلون الدين باسم التدين، ويكذبون ويدلسون على الناس، ويقصونهم وينبذونهم، ويتقمصون الشخصية المنفتحة عندما يستهويهم الانفتاح، والشخصية المحافظة عندما لا يروق لهم الاختلاف، ويتناسون أن الكرامة الإنسانية والأخلاق العالمية مقدمة على الكرامة الإيمانية والأخلاق الإسلامية، قال تعالى، في سورة الإسراء: {ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.