«عصر المجالس: الأخويّات الأدبيّة والفنيّة في القرن التّاسع عشر» هو عنوان الكِتاب الذي صدر أخّيرا عن دار النشر الفرنسيّة «فايارد» للمؤلّفَيْن أنطوني قلينوار وفانسان ليزني، والكتاب ذو طابع نقديّ مهمّ من جوانب عدّة؛ إذ سعى خلاله الناقدان إلى تقديم جردٍ شاملٍ لأهمّ مظاهر الثقافة الفرنسيّة ومميّزاتها في فترةٍ زمنيّة بعَيْنها، وهي القرن التّاسع عشر، مُسلِّطين الضوء بشكل خاصّ على جملةٍ من الفضاءات الثقافيّة التي كانت بمنزلة النواة الأولى لتكريس ثقافةٍ أدبيّة ظلّت قرونا عدّة رائدة ومُلهِمة للعديد من الكتّاب والفنّانين والشعراء والرسّامين المهووسين بالحكي، والذين كانوا يتصدّرون تلك الحقبة التاريخيّة المخصوصة.

فهذه الفضاءات غير منفصلة في واقع الأمر عن تاريخ الفن والأدب في فرنسا، فمن المجالس إلى الحلقات، مرورا بالنوادي والصالونات والموائد المستديرة، لا يترك مؤلفا هذا الكتاب الفرصةَ تمرّ من دون الإشارة إلى مزايا هذه الظواهر، والتفصيل فيها تفصيلا شافيا، والمُقارَنة بينها، وإلى دور الكتّاب والشعراء والفنّانين والرسّامين في إغناء تلكم الفضاءات الاجتماعيّة، وإلى ما يدور في رحابها من محاوراتٍ ومُناقشاتٍ وقراءةِ أشعارٍ جَعَلَتْ من القرن التّاسع عشر في فرنسا أمرا يستحقُّ أن يُلقَّب بـ«عصر المجالس».

الأشكال المؤانساتيّة


تطرَّق المؤلِّفان في الكتاب إلى أشكالٍ عدّة من الفضاءات الاجتماعيّة الثقافيّة الفرنسيّة، قارَنا فيما بينها بمنهجيّةٍ تتميّز بنوعٍ من التدرُّج التاريخي الواضح، وبسلاسةٍ في الأفكار المطروحة. وقد قسّما الكتاب إلى أربعة أقسام، تسبقها مقدّمة عامّة، وقفوها بخاتمة.

تأتي أهميّة المقدّمة، بدءا، من كونها تقدِّم تعريفا مهمّا للمجلس، باعتباره شكلا من أشكال المؤانسات الثقافيّة والاجتماعيّة الفرنسيّة غُمط حقُّه من قِبل الباحثين، حيث لَم يلقَ حظّه من الدراسة والتقييم عكس ما لقيته الأشكالُ المؤانساتيّة الأخرى كالمقهى والصالون الأدبيَّيْن، والأكاديميّة والجمعيّة التي تحتلّ، إلى اليوم، مكانةً مهمّة في المخيال الفرنسي الجمعي، ولا تُقاس مقارنة بالمجلس.

استند المؤلّفان في تعريفهما للمجلس إلى قاموس «بيار لاروس» الذي يُقدِّم تعريفا عامّا له، ويحدُّه بأنّه «اجتماع أو مجموعة أشخاص يَشتركون في الأفكار نفسها، ويمتلكون العادات نفسها، ويسعون إلى الهدف نفسه»، وإلى «إميل لِيتْرِي» الذي يرى أن المجلس هو «اجتماعٌ لأدباءٍ وفنّانين كثيرا ما يلتقون، ويوصَمون بأنّهم مُعجبون ببعض البعض». ومن خلال تعريفهما لفظة «المجلس» التي رأت النور، بحسب المؤلّفَيْن، عن طريق المؤلِّف «ليون سيشي» من خلال استعماله لها في عنوان اثنَيْن من كتاباته، هُما: «مجلس ربّة الشعر الفرنسيّة» و«مجلس جوزيف ديلورمي»، والإشارة إلى مزاياه والعلاقات التي تحكم بين روّاده أو جُلّاسه، يُعلن المؤلِّفان أنّ هدفهما من هذا العمل إنّما هو يكمن في الوصف الدقيق لكيفيّات اشتغال مجالس القرن التّاسع عشر، ابتداءً من أكثرها شهرة مثل مجالس فيكتور هوغو، وأسباتُ لوكونت دي ليسلي وغيرها. وتتمثّل الفرضيّة التي يَطرحها المؤلِّفان في أنّ شكل «المجلس»، الذي لم يحلّ محلّ الأشكال المؤانساتيّة الأخرى التي تنافسه، كان بمنزلة البنية المرجعيّة للمؤانسة لدى الأدباء والفنّانين في القرن التّاسع عشر.

مجالسٌ مهمَّشةٌ

أمّا القسمُ الأوّلُ من الكتاب فسعى فيه المؤلِّفان إلى تحديدِ زمن ظهور المجالس، مُشيرين إلى أنّ هذه الظاهرة كانت دائمة وحاضرة ومُنتشِرة في الواقع وفي أذهان الناس، فهي لم تنقطع تماما، ذلك أنّ التواصُل بين البشر ينبذ الفراغ، وحتّى عندما يحدث أن تكون هذه المجالس غائبة، فإنّ أشكالا مؤانساتيّة أخرى ذات صلة ومُشتقَّة منها بطريقة ما كالصالونات المُختلطة، وحفلات العشاء، واجتماعات النوادي، تتولّى المسؤوليّة مكانها، وتؤدّي المهمّة نفسها. ومن هذه الفضاءات المؤانساتيّة يتطرّق الكاتبان إلى حلقة ﻓﺎﻟﻨﺘﻴﻥ كونرار، وصالون هولباخ، وفرقة المتأمّلين، وجماعة كوبي، والكتلة الرومانسيّة (1820 - 1835)، ومجلس ربّة الشِّعر الفرنسيّة، وعليّة ديليكلوز، وآحاد أرسنال، ومجلس شارع نوتردام دي شون، وأربعاءات ألفريد دي فيني، وغيرها من الفضاءات والمجالس التي أسهمت في تنشيط الحياة الأدبيّة والثقافيّة في فرنسا القرن التّاسع عشر كالمجلس البوهيمي، ومجالس شاربي الماء، وصالون شارع فروش، والمجالس الرومانسيّة، والكوكبة البارناسيّة (1860- 1870)، وعشاءات ماغني، وسبوتُ شارع إنفاليد، ومجالس برناسيّة أخرى (منداس - ريكارد - لوميير)، ونادي «المُتداوون بالماء» لإيميل جودايو، وصالون «نينا دي كالياس»، ومقهى فرنسوا أوغيست جوربوا، وخميسات إيمل زولا، ومجموعة الانطباعيّين، وثلاثاواتُ مالارميه، وجماعة «الأنبياء»، وأسباتُ خوسيه ماريا دي إيريديا، وخميسات ألفونس وجوليا دودي الأدبيّة، ومجالس المُراجعة (القلم - الصومعة - الزئبق)، ومجالسٌ أخرى مهمَّشةٌ كمجالس «پُولْ ڤيرلين - جان مورياس - جوريس-كارل هويسمانز» وآخرين.

الثوابت المورفولوجيّة

أمّا القسم الثاني من الكتاب فيترك جانبا المَظهر الأدبي للمجلس، ليُركّز على الثوابت المورفولوجيّة فيه، ولا سيّما فيما يتعلّق بمكان انعقاد تلكم المجالس (الموقع - التأثيث - الديكور)، وأيضا فيما يتعلّق بعدد الجُلّاس، والاجتماعات فيها، ولوائحها الداخليّة، وكذلك الأنشطة التي تُميّزها. وههنا يسعى المؤلِّفان إلى الإجابة عن أسئلةٍ عدّة ذات صلة بهذا السياق، منها: ما الذي يجري في هذه المَجالِس؟ ما الموضوعات التي يتمّ طرحها ومُناقشتها على مستوى الجلّاس؟ ما الطابع الذي تتميّز به هذه المُناقشات الحاصلة بين الحاضرين؟ ما الذي يُميِّز الخطاب المجلسيّ عن غيره من الخطابات؟ وبحسب المؤلّفَيْن، فلقد كان المجلس يتنافس مع أشكال المؤانسات الأخرى الموجودة، لذلك سيكون الأمر متروكا لهما لمُقارنته بهذه الأشكال الأخرى، مع التركيز على الاختلافات والتقارُبات المورفولوجيّة بينها، وذلك من أجل تقويم مدى تميُّزه، شكليّاً، عن تلكم الأشكال الأخرى المُنافسة له، ومَنْحه مكانه الحقيقي من ضمن المؤانسات الثقافيّة في القرن التّاسع عشر. وفي سياق وضْع المجلس في إطار كوكبةِ المؤانسات الثقافيّة التي يرتادها الأدباءُ في باريس، سعى المؤلِّفان، أوّلا، إلى إجراء فرزٍ أوّليٍّ بين مختلف طبقات المؤانسات اعتمادا على ما إذا كانت هذه المؤانسات منتظمةً أو عرضيّةً، وعلى أساس المُشارَكة النشطة، ليصلا، بالتالي، إلى نتيجةٍ مفادها أنّ المجلس ليس، في الواقع، سوى مجموعة فرعيّة من مجموعة متشعّبة جدّا من المؤانسات التي شارَك فيها الأدباءُ الباريسيّون في القرن التّاسع عشر. ويمضي المؤلِّفان بعد ذلك إلى تقديم نماذج من هذه المؤانسات المتنوّعة، منها: المؤانسات المُنتظمة، ومؤانسات الجمهور، ومؤانسة الترفيه، والمؤانسة العَلْمَانيّة، والمؤانسة التفاخريّة، والمؤانسة الفرجويّة، والمؤانسة الوديّة، والمؤانسة الجماعيّة، والمؤانسة المِهنيّة، والمؤانسة الإخائيّة، والمؤانسة المجلسيّة، ليَصِلا بعد ذلك إلى الحديث عن وسائل التسلية في المجالس، وأهميّة المُحادَثة والقراءة في الفضاء ذي الصلة. في حين خصَّص الباحثان القسم الثالث من الكتاب للحديث عن حركيّة المجالس، فما تقدّم ذكرُه لم يَجعل المؤلِّفَيْن يمرّان مرور الكرام على بُعده الديناميكي الذي يُمّيزه، فالمجلسُ، في تصوّرهما، يتطوّر باستمرار، ويمرّ بمراحل عدّة من التماسك والانصهار، والاكتئاب، والانشطار، والانحلال. ومن الواضح أنّ هذه المجالس تتمتّع بديناميّاتها الخاصّة. وفي هذا القسم، يُشيران إلى أهمّ هذه السمات، ابتداءً بمرحلة التأطير، ثمّ قانون التجانُس، فعوامل الإقصاء وعوامل الإدماج، فمرحلة التماسُك، والتماسُك السلبيّ، وآليّات التضامُن، واللّهجة الجماعيّة المجلسيّة، ومرحلة التأسيسِ، ثمّ اختبار الطائفة، واختبار الأعلمة، واختبار التعبئة، واختبار التسلسُل الهرمي، ومرحلة الانصهار، انتهاءً بمرحلة الحماية والرَوْتَنة، ثمّ العَلْمَنَة، والتخليد.

مجالس الخيالِ

القسم الرّابع والأخير، وهو بعنوان «المجلس مُمثّلا»، فيه يُشير المؤلِّفان إلى طرائق تمثيل المجلس، وهُما يُقيمان مُقارَنةً بين مستويَيْن: الواقع المادّي للمجلس من ناحية، وإعادة تمثيله أو إبداعه، نصيّا، من ناحية ثانية. ولا يقلّ المستوى الثاني أهميّة عن الأوّل؛ فإذا كان أصحاب المجالس يهدفون من خلال إنشاء مجالسهم إلى تشييد ملكيّة عقاريّة قد لا تُعمِّر طويلا، فإنّهم كانوا كذلك يهدفون إلى إنشاء مجالس خياليّة تظلّ خالدة عبر التاريخ. وفي الواقع، إنّ تاريخ المجالس الواقعيّة لا ينفصل في حقيقته عن تاريخ المجالس الخياليّة التي تشكّل النقطة المُقابلة الأساسيّة لها، وما «مجلس دانيال دارثيز»، الذي استمرّ حضوره في ذاكرة الأجيال اللّاحقة، سوى الأوّل من ضمن سلسلة طويلة من المجالس الورقيّة التي ستَظهر تباعا وعلى مرّ العصور من خلال صور ومقالات وقصائد شعريّة مجلسيّة ستقدِّم تمثيلا ضمنيّا لهذه المجالس التي اندثر بعضُها. ولقد حاولَ المؤلّفان في هذا القسم من البحث تحديدَ الخصائص الرئيسة لهذه النصوص المتنوّعة، بدءا بالمُراسَلة، ومرورا بألبوم أميكوروم وبعض النقوش والإهداءات والمقدّمات والبيانات، والأشعار والروايات المجلسيّة، ومجالس الخيالِ، وأدب الذكرى.

الهروب من سلطة النقد

ويَختتم المؤلّفان كتابهما بالإشارة إلى سموّ تلكم المجالس ورفْعتها من ناحية، وإلى بؤسها من ناحية ثانية، فهي فضاءات داخليّة تسمح للناس، المُبدعين بصفة خاصّة، بالهروب من سيطرة المؤسّسات الرسميّة، وتأثير الصحافة، وسلطة النقّاد والضغط العامّ، فهي بالنسبة إلى فنّان القرن التّاسع عشر وأديبه بمنزلة الجنّة الصغيرة التي يجدان فيها كلَّ ما يبحثان عنه: السريّة والدفء والمَرَح، فالمجلس يُبهِج أولئك الذين ينخرطون فيه، حيث يُمكن للجميع إظهار أنفسهم بشكل طبيعي، ومن دون أقنعةٍ، وفيه يُمكن لأيّ شخص أن يتحدّث عن الفنّ والأدب من دون فرض رقابة على نفسه. كما يُمكن للجميع تجربة أعمالهم واختبارها أمام جمهورٍ صغير وخبيرٍ ومُتفهِّم. لكنّ هذا المجلس «له جَحيمه»، كما يقول المؤلِّفان، فالروائيّون الذين حَوّلوا المجلس إلى رواية رسَموا له صورةً مُغايرة، حيث أبرزوا عَظَمَتَهُ من دون إخفاء أيّ شيء من مآسيه، فكانت النتيجة مؤسِفة ومُحيِّرة لبعض المجموعات. ففي نهاية مُغامرتهم مثلا، تقوم جماعةُ «شاربو الماء» بتمزيقِ بعضهم بعضا، وتتفكّك جمعيّة مولان روج ومجموعة زولا وحلقة كالقيست أرميل.

داخليّا، يبدو المجلس، من خلال نصوص هؤلاء الروائيّين ومجموعة أخرى من النصوص الساخرة، مَعبدا للفنّ الخالص، ومَلاذا للجمال المُطلق، وفضاءً للابتكارات الجريئة كلّها. إنّه يبدو وَعدا بالخلود والعالَميّة. لكنْ إذا نَظَرْنا إليه من خارج، فهو، على العكس، لا يعدو عن أن يكون اجتماعا لطائفةٍ من الناس المؤذيّين. ويَختم المؤلِّفان الكتاب بالحديث عن روح المجلس ورسالته، مؤكِّدَيْن، في النهاية، أنّ الأدب لا يُمكن تحقيقه إلّا في إطار هذه البيئة المادّيّة (أو الخياليّة) للمجلس. ولقد أراد المجلس باعتباره شكلا نقيّا، بحسب رأيهما، أن يُهيّئ الظروف المُلائمة لفنٍّ «نقي» وتلقائي، بسبب كونه يظلُّ متحرّرا من المعايير المعمول بها، خاضعا لمعايير لجنة غير رسميّة من الخبراء فقط. وعلى الرّغم من هجمات خصومه وخياناتهم وغيرتهم الدفينة تجاهه، فإن المجلس يظل صامدا في وجه ذلك كلّه، ويطفو، ويُقاوِم، ثمّ ينجو، فهو في اللّحظة التي نعتقد فيها أنّه قد اندثر ينبعثُ من رماده.

*باحث من تونس

*ينشر التزامن مع دورية افق الإلكترونية.