الأعياد الدينية واحات في صحراء الحياة، يستريح إلى نبعها الحران واللاغب، ويطمئن إلى ظلها الهيمان والشارد، ويجد الكاسف المعمود في نسيمها الندى برد السرور ونشوة العافية، ويذهل السائر المجهود برهة من العمر عن مخاطر الطريق ومكايد الرفاق ومساؤى القافلة، ويذكر أن له عواطف صالحة طغت عليها المنافع، وقرابة واشجة قطعت بينها المطامع، وصلات شابكة أوهنتها الجفوة، وتبعات واجبة أعجزه عن حملها كلال الضمير، وغاية إلى الخبر المطلق أضله عن سبيلها غرور الحياة.
عيد الأضحى هو عيد الأسرة والأمة والملة، يفيض المسرة والبهجة على البيت: ويجدد المودة والألفة في الوطن، ويسفر بالتعارف بين وجوه الإخوة في عرفات، فإذا رده اليوم فساد العيش في المدينة إلى ما نعرف من خروف يذبح ولا يضحي، ومساجد تؤذن بالمدافع والمآذن ولا تجاب، وبيوت تفتح للتهاني ولا تزار، وأيام كنقاهة المريض كلها خمود ونوم وأكل، فإن له في القرية صورة لا تزال منذ الطفولة في ذهني فتانة الجمال أخاذة السحر شديدة الروعة: لا يكاد يفرغ القرويون من صلاة المغرب ليلة العيد حتى ترى طريق المقبرة يسيل بالفوانيس الشاحبة الخافتة. تم تنتشر آخر الأمر على وجوه القبور انتشار الحباحب، وتنتقل القرية الحية إلى القرية الميتة فتقضي موهنا من الليل في الاستعبار والاستذكار والقراءة، ثم يعودون وقد كفاهم (الفقهاء) مؤونة ما حملوا من الكعك والفاكهة، فيقطعون الهزيع الثاني من الليل في طسوت الحمام أو في دار المزين! والغسل بالماء الساخن لا يعرفه الفلاحون إلا ليلة العيد وليلة الزواج ويوم الموت، ثم يعدون زينة العيد فيكورون العمائم
ويصبغون الأحذية ، ومن لا يحسن لوث العمامة، أولا يملك علبة (الورنيش) ، ذهب بطر بوشه أو بحذائه إلى قريبه أوجاره، والقرية كلها أسرة واحدة يكمل بعضها نقص بعض، فإذا فرغوا من ذلك ناموا على هدهدة الأحلام ومناغاة المنى، وتركوا النساء أمام المواقد ينضجن الخبز ويطهين اللحم ويصنعن الحلوى حتى الصباح!
1934*
* كاتب ودبلوماسي مصري «1915-1993»