في الثّلث الأوّل من القرن العشرين نَظَمَ الشّاعر المصري حافظ إبراهيم (1872 – 1932) قصيدة بلسان لغة الضادّ، احتوت ثلاثة وعشرين بيتاً عبّر خلالها عن حال اللّغة العربيّة وعن الوَهن الذي أصابها في عقرِ دارِها وعن الإهمال الذي لَحقها من أهلها بسبب عدم مُواكَبتهم مع عُلماء اللّغة الكمّ الهائل من العلوم الحديثة والاكتشافات العلميّة التي ظهرت في الغرب بلغاتِ قَومها. وقد راوحَ الشاعرُ في هذا القصيد بين وضعيّة اللّغة قديماً، حيث كانت مُواكِبة لكلّ ما كان يحدث في العالَم العربيّ من تقدُّمٍ في مختلف العلوم وتمدّنٍ وتحضّرٍ في شتّى المجالات، وبين وضعيّتها في زمنِ انحطاط الأمّة العربيّة الإسلاميّة على مُختلف الأصعدة. وقد وُصمت اللّغة العربيّة بالعجز عن مواكبة التّقدُّم العلمي الذي عرفه العالَمُ الغربيّ والذي لم يواكبه ابتداعٌ لغويّ في مستوى الألفاظ والمُصطلحات في العالَم العربيّ والإسلاميّ. يَعتبر عِلمُ اللّسانيّات اللّغةَ مؤسّسةً اجتماعيّة تزدهر بتقدّم المُجتمع، فتُغنى بابتداعِ ألفاظٍ ومصطلحاتٍ جديدة مُناسبة لكلّ ما يَطرأ على الاجتماع البشري من شؤونٍ جديدة في مجالات الحياة المُختلفة، وتتخلّف أو تركد بانحطاط المُجتمع وضعفه. وما يؤكّد ذلك ويدعمه أنّ اللّغةَ العربيّة كانت مُبدعة وخلّاقة في معجمها زمن ازدهار الحضارة العربيّة الإسلاميّة، إذ اتّسعت لتَسَع كلّ ما كان يطرأ على أنواع العلوم، حتّى أنّها كانت موغلة في الدّقّة والتدقيق في السجلّات اللّغويّة؛ وللتدليل على ذلك يُمكن الرّجوع إلى كُتبِ فقه اللّغة ومؤلّفات العلوم الصّحيحة لنتبيّن كم كانت هذه اللّغة غنيّة حتّى أنّها اجترحت للأسد 700 اسمٍ، وللكَلب 60 اسماً، وللخمر ما يقرب من 20 اسماً. فمِن أسماء الأسد: الضَّرْغَمُ والضِّرْغامُ والضِّرْغامَة والهِرْماسُ والهُرامِسُ واللّيث والهِزَبْرُ والهُزابِرُ. أمّا أسماء الخَمر فنورد ما ذكره أبو منصور الثعالبي (ت 429ه) في كتابه فقه اللّغة في الفصل الخامس عشر من الباب الرّابع والعشرين حول تفصيل الخمر وصفاتها، يقول المؤلِّف: "الخمر اسمٌ جامِع، وأكثر ما سواه صفات: الشَّمول التي تشمل القوم بريحها، المَشْمول التي أبرزت للشَّمال [.....] الرَّحيقُ صفوة الخمر التي ليس فيها غِشّ [...] الخَنْدَرِيسُ القديمة منها[...]الحُمَيَّا الشّديدة منها [...] العُقَارُ التي عاقرت الدّنّ زماناً أي لازمته [....] القَرْقَفُ هي التي تُقَرْقِفُ صاحبَها إذا أَدمن شُربها أي ترعشه [...] الخُرْطوُم أوّل ما يخرج من الدّنّ إذا بُزِل [....] الرَّاحُ التي يرتاح شاربها لها [...] المُدامَة التي أديمت في مكانها حتّى سكنتْ حركتُها وعتقت [...] القهوة التي تُقْهي صاحبها أي تذهب بشهوة طعامه [...] السّلاَفُ التي تَحلَّب عصيرُها من غير عصرٍ باليد ولا دَوْس بالرّجل [...] الطِّلاء قد طبِخ حتّى ذهب ثلثاه [...] الكُمَيْتُ الحمراء إلى الكُلْفَة [...] الصّهْباء التي من العنب الأبيض [...] الباذِقُ معرّب وهو أن يُطبَخ العصير بعض الطبخ وتُطْرَح طَفاحَتُهُ ويُطَيَّب ويُخَمَّر..."(فقه اللّغة، ص ص 274- 275).

وقد وظَّف أبو العلاء المعرّي جميع هذه الألفاظ وأضاف إليها ألفاظاً أخرى في رسالة الغفران. ويُمكن أن نضيف إلى ما تقدّم في ما جاء في كتاب فقه اللّغة ما ذُكر حول ترتيب الحُبّ وتفصيله في الصفحة 171 حيث يقول مؤلِّفُه: "أوّل مَراتِب الحبّ الهوى، ثمّ العلاقة، وهي الحبّ اللّازم للقلب، ثمّ الكَلَفُ وهو شدّة الحبّ، ثمّ العشق وهو اسم لِما فضل عن المقدار الذي اسمه الحبّ، وكذلك اللّوعة واللاّعِجُ، فإنّ تلك حُرقة الهوى وهذا هو الهوى المُحرِق. ثمّ الشَّغَفُ، وهو أن يَبلغ الحبُّ شَغَاف القلب، وهي جِلْدَة دونه [...] ثمّ الجَوَى، وهو الهوى الباطن. ثمّ التَّيْمُ وهو أن يستعبده الحبّ (ومنه سمّي تَيْمُ الله أي عبد الله، ومنه رجل مُتَيَّم). ثمّ التَّبْلُ وهو أن يُسقمه الهوى (ومنه رجل مَتْبُول)، ثمّ التَّدْلِيه، وهو ذهاب العقل من الهوى (ومنه رجل مُدَلَّهٌ) ثمّ الهُيُومُ وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه (ومنه رجل هائم)، (فقه اللّغة، ص 171). العلوم بلسانٍ عربيّ مبين إنّ الأمثلة التي استخرجناها من المصنّفات القديمة تؤكّد كم كانت اللّغة العربيّة غنيّة ودقيقة زمن ازدهار الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وهي تدلّ من جهة أخرى على أنّ المُجتمع العربيّ والإسلاميّ كان يُبدع ويُنتج ويُوفّر ما هو في حاجةٍ إليه. وممّا يَدعم هذا الإبداع والإنتاج ما حَصَل في مجال العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، وفي الطبّ والرياضيّات والهندسة والفلك... فقد ظهرَ في الطبّ أبو بكر محمّد بن زكريا الرازي (ت 313ه/ 925م)، وألَّف الكتاب المنصوري الذي تُرجم إلى اللّاتينيّة، وظلّ يُدرَّس في الجامعات الأوروبيّة إلى حدود القرن السابع عشر الميلادي، وله كتاب الحاوي الذي استغلّه الغرب إلى حدود القرن العشرين. أمّا كتابه في الجدري والحصبة فقد تُرجم إلى اللّاتينيّة والإنكليزيّة، وطُبع أربعين مرّة ما بين سنة 1498 وسنة 1866، وهو أوّل كتاب شخَّص فيه صاحبه تشخيصاً دقيقاً التهابَ الأعضاء والرئة.

أمّا كتاب القانون في الطبّ لابن سينا، فقد نُعت بـ الإنجيل الطّبّي، وظلّ يُتداول في المشرق والمغرب من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر الميلاديَّيْن. واختصّ أبو القاسم الزهراوي – نسبة إلى الزهراء في الأندلس- (ت 404ه/ 1013م) بطبّ الجراحة، وهو يُعتبر ثالث ثلاثة من نوابغ العرب في الطبّ بعد الرازي وابن سينا؛ ألَّف كتاب التصريف لمَن عجز عن التأليف، الذي تُرجم إلى العديد من اللّغات، وظلَّ مُعتمَداً في الجراحة في فرنسا وإيطاليا مدّةً طويلة. وفي الرياضيّات والهندسة، فبالإمكان الإشارة إلى كلٍّ من عُمر الخيّام (ت 526ه/ 1132م)، والحسن بن الهيثم (ت430ه/ 1039م). كان الأوّل عالِماً في الرياضيّات والفلك، واشتهرَ في مجال الأدب بقصيدة الرباعيّات. أمّا الحسن بن الهيثم فيعود له الفضل في ابتداع عِلم البصريّات إذ عُرف على يدَيْه النور باعتباره كائناً طبيعيّاً (أنظر محمّد سويسي، أدب العلماء، الرازي- الحسن بن الهيثم- ابن سينا). إنّ جميع هذه العلوم وُلدت بلسانٍ عربيّ مبين في أفكارها وسجلّاتها اللّغويّة ومفاهيمها ومصطلحاتها، وقد كانت اللّغة العربيّة في ذلك الوقت قادرةً على استيعابها وخلْق المعاجم الدقيقة والمُناسبة لها، مثلما كانت قادرة على تعريب النصوص المفيدة الموصولة بها من اللّغات الأجنبيّة، لأنّ أهلها كانوا قادرين على الإنتاج العلمي والصّناعي، فاعلين في التّمدّن والحضارة، يَستهلكون ما يُنتجه فكرهم وتصنعه أياديهم، فتقدّمت اللّغةُ العربيّة برقيّهم، واتّسعت في معجمها باتّساع علومهم وازدهار حضارتهم ورفاه عيشهم. ومن أبرز العوامل التي كان لها التّأثير الإيجابيّ في بلوغ اللّغة العربيّة تلك المرتبة الرفيعة حدّ التقديس، أنّها كانت اللّغة الرسميّة للدولة التي امتدّت أطرافها عن طريق الفتوحات، فاحتوت الكثير من الشعوب التي اضطرَّت إلى دخول الإسلام، وتعلُّم اللّغة العربيّة إمّا لأداء الناس فرائضهم من ناحية، وإمّا للاندماج في المُجتمع العربيّ بتوظيفهم في دواوين الدولة من ناحيةٍ أخرى. وباتّساع الرقعة الجغرافيّة وتنوُّع الأجناس، اتّسعت الحاجاتُ الحياتيّة للناس، والتي لم تكُن معروفة لدى العرب، وكان من الواجب سدّ الفراغ اللّغوي، إمّا بخلْقِ مصطلحاتٍ جديدة أَغنت اللّسانَ العربيّ، وهو النَّهج الأكثر اعتماداً، وإمّا باستعارة مصطلحاتٍ من لغاتٍ أجنبيّة وإدماجها في المعجم العربيّ (الألفاظ/ المصطلحات الدخيلة).


وقد نبَّه اللّغويّون وعُلماء القرآن إلى حضور هذا النَّوع من الألفاظ وأحصوها ونسبوها إلى أصولها اللّغويّة (أنظر البرهان في علوم القرآن للزركشي والإتقان في علوم القرآن للسيّوطي). وقد كان للترجمة دَورٌ كبير في إغناء الرّصيد اللّغوي العربيّ، وفي قدرة لغة الضادّ على استيعاب المعارف والعلوم والثّقافات الأخرى. ولا بدّ أن نشير هنا إلى الجهود الكبيرة التي بَذلها بيت الحكمة في نقْلِ التراث اليونانيّ، بخاصّة في الطبّ والفلسفة، إلى اللّسان العربيّ، وقد استفادَ المفكّرون العرب والمُسلمون من هذا التراث، فاستوعبوه، ثمّ تجاوزوه في الكثير من إشكاليّاته، واستفادت اللّغة العربيّة من الألفاظ والمُصطلحات التي ابتدعها المعرّبون مقابل الألفاظ والمُصطلحات اليونانيّة المُستعملة في المصادر الأصليّة، وهو ما ساعدَ كثيراً المعاجم على التّوسُّع والتنوُّع والـتخصّص في مجالٍ علميّ معيّن. أمّا وضْعُ اللّغة العربيّة في الزّمن الرّاهن، فلا نرى أنّه في أحسن حال، على الرّغم من أنّها تحتلّ المرتبة الرّابعة عالَميّاً، وصارت لغةً مُعتمَدةً رسميّاً في منظّمة الأُمم المتّحدة منذ العام 1973؛ ووضْعها غير المريح يُعزى إلى عوامل عدّة، أبرزها مزاحمة لغات أجنبيّة أخرى لها في المدارس الابتدائيّة بخاصّة، فالتلميذ يتعلّم – إلى جانب العربيّة- لغةً ثانية، ولغةً ثالثة قَبل أن يتمكّن من اكتساب ملكة اللّغة الأمّ التي تُمكّنه من التعبير السليم باللّغة العربيّة وقَبل أن يكتسب الزّاد اللغويّ الكافي الذي يُساعده على التعبير مشافهةً وكتابةً عن أفكاره بسبب مزاحمة اللّغات الأخرى. وممّا يزيد في تدنّي مستوى المتعلّم في لغته، أنّ اللّغة الأمّ لا يستعملها التلميذ/ الطالب إلّا داخل الفصل.

أمّا خارجه، في العائلة أو في الشارع، فالمُستعمَل هو اللّهجة المحلّيّة، وبذلك تقصر مدّة تداوُل الكلام باللّسان العربيّ الفصيح، إذ هي تقتصر على الساعات المخصّصة له في الفصل الدراسي. ثمّ إنّ وسائل الإعلام في العالَم العربيّ لا يُلزَم العاملون بها بتقديم البرامج باللّغة العربيّة الفصحى، بل يُسمح لهم التكلُّم باللهجة المحلّيّة، وأحياناً تُستعمَل اللّهجة المحليّة ممزوجةً بكلماتٍ من لغاتٍ أجنبيّة.

وقد أَسهمتْ وسائل التواصُل الاجتماعي المُختلفة في تدنّي مستوى المُتعلّم في لغة الضادّ، لأنّ هذه الوسائل عوَّضت لدى الكثير من المُتعلّمين الكِتابَ الذي كان من أهمّ العوامل التي تُسهِم في الترقّي بالمستوى اللّغوي والفكري لدى القارئ/ المُطالِع، هذا علاوة على أنّ هذه الوسائل تَسمح لقارئها أن يَقرأ ويَكتب أشياء بلغة وعبارات غير سليمة. وتُدرَّس العلومُ الحديثة في المعاهد الثانويّة وفي مؤسّسات التعليم العالي باللّسان الأجنبيّ، ولاسيّما اللّغتَيْن الفرنسيّة والإنكليزيّة بما أنّها من إنتاج البلدان الغربيّة مثل الرياضيّات والفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعيّة والتقنيّة والتكنولوجيا والطبّ والإعلاميّة، ولم يُستحدث لها ما يقابلها في اللّسان العربيّ.

ففي الماضي "وسِعْتُ كتابَ الله لفظاً وغاية" بحسب عبارة الشاعر حافظ إبراهيم، في "قصيدة اللّغة العربيّة" المذكورة في مستهلّ المقال، وقدرت على استيعاب التراث اليونانيّ فلسفةً وطبّاً ورياضيّات، وسبَب الوهن الآن لا يُعزى إلى عجْزها وفقْرها في مستوى المعجم، وإنّما يرجع إلى أنّ هذه العلوم نشأت في العالَم الغربيّ من جهة، ومن جهة أخرى إلى تخلُّف العرب في هذه العلوم والكسل الفكري لدى علمائهم ومفكّريهم الذين لم يجتهدوا في تعريب تلك العلوم، ولم ينقلوا إلى اللّسان العربيّ إلّا القليل منها، بخاصّة العلوم الإنسانيّة وعِلم الاجتماع. أمّا بقيّة العلوم الحديثة فتدرّس باللّسان الأجنبيّ. باختصار، إنّنا نرى أنّ اللّغات تنمو وتزدهر بنموّ النّاطقين بها وبازدهارهم، وبإسهامهم في إنتاج العلوم الحديثة وفي بناء الحضارة الكونيّة وفي تراكُم المعارف.

*باحث من تونس

*ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.