تتهيأ القوى السياسية اليمنية لسجالات حوار وطني قيل إنه لا يستبعد قضية ولا يستثني طرفاً. وقديما وصف الرئيس الراحل سالم ربيع علي واحدة من تجارب المصالحات التي لا تفضي إلى حلول بقوله (حدث أطول حوار في أصغر بلد).

ولقد شهدت اليمن قبيل وبعد إعادة وحدتها في 22 مايو1990 من القرن الماضي حوارات لا حصر يسعها ولا عصر يحكي مثالها لكنها جميعا مهدت لقلاقل مؤسفة واضطرابات عميقة وحروب مروعة، أكثر مما ساعدت على وفاق أو ردمت فجوات شقاق.

وللأمانة التاريخية فإن حالة استثناء واحدة أدت لتحقيق نتائج إيجابية عكست نفسها على استقرار ونمو ما كان يعرف بالجمهورية العربية اليمنية بداية عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح، إذ أثمر الحوار العقلاني المتدرج عن إنجاز رؤية وطنية شاملة أطلق عليها (الميثاق الوطني) إلى جانب توافق الفرقاء سلطة ومعارضة على اعتماد المؤتمر الشعبي العام وعاءً سياسياً للحكم ومنتجعا رحبا للشراكة في إدارة شؤون المجتمع وبناء مقومات الدولة البراجماتية الموازية لتجربة الحزب الاشتراكي في جمهورية اليمن الديموقراطية.

وخلال الفترة 82-1990م كانت حاجة صالح من وجود المؤتمر غدت مجرد عارض ترفي حلت القوة وأجهزة البوليس والعصبية القرابية كما صورها ابن خلدون بديلا عنها. ومنذ ذلك الوقت حتى الساعة لم يعد المجتمع يثق أو يعول كثيرا على حوارات الساسة قدر ما ترتفع موشرات قلقة كلما جاء الحديث عن حوار سياسي!! وكثيرا ما حسمت قضايا الصراع في إطار تفاهمات الغرف المغلقة.

أما لماذا يستقبل الناس أفضل وأنجع الوسائل الحضارية قدرة على إدارة الصراعات ومعالجة الأزمات وإذابة الجليد بين المختلف والمؤتلف فلأنهم عاشوا محنة الحوارات التي تبدأ لدواع تكتيكية وتنتهي صراخاً ولعلعة رصاص قاتل.

في ألبومات التاريخ المعاصر عشرات الصور التذكارية تروي قصة الحوار على الطريقة اليمنية وكيف أن زعماء وقادة ومفكري وعلماء هذا البلد يقولون لبعضهم كلاما ويبيتون نقيضه.

وعادة ما يستهل هولاء ملتقياتهم الحوارية بنقد سلطات الحكم واستعراض تطلعات الشعب وإثارة القضايا الخلافية لكن سرعان ما ينكشف الغطاء ويصبح اقتسام السلطة وتوزع وتوزيع أسلابها هدفا رئيساً عند مختلف الأطراف.

حسناً ما دام الأمر كذلك فلماذا يعاد تدوير الأزمات إثر كل محاصصة؟ الاعتقاد المرجح أن مرد ذلك إلى ثلاثة عوامل مجتمعة لدى بعض الأطراف، وفرادى لدى أطراف أخرى.. فعلى حين يعود العامل الأول إلى غياب المشروع الديموقراطي الوطني فإن العامل الثاني يتمثل في نقل وظائف السلطة من خدمة الشعب إلى وسيلة لتصفية الحسابات الثأرية المؤجلة على حساب وظائف الحكم وحاجات المجتمع، فيما يعكس العامل الثالث تأثير مراكز النفوذ الإقليمي والدولي على مجريات الداخل.

وبهذا الصدد يشدد الأستاذ عبد السلام العنسي، عضو مجلس الشورى، في ورقة عمل مقدمة إلى ندوة سياسية عقدت بالعاصمة صنعاء موخرا على حتمية الحوار وحاجة اليمنيين لانتهاجه خيارا وحيدا لإدارة التباينات، ولكنه ينفي مثل هذه الحاجة إذا لم تقم على أساس الاعتراف بالآخر وتعزيز القواسم المشتركة معه كمدخل للتوافق حول القضايا الخلافية.. وفي إشارة إلى مستوى نضج الأطراف المتحاورة يردف بقوله: (ويكون الحوار حضارياً بقدر ما تكون عليه قناعات أطرافه بمبدأ التعايش السلمي واستعداد كل فريق لتغليب المصالح العليا للوطن، والأخذ بالأصوب من الآراء المثارة ووجهات النظر المطروحة).. مغزى الاستشهاد برأي الأستاذ العنسي - وهو بالمناسبة أحد مرجعيات العمل السياسي الوطني – يكمن في التعريف بحجم الخسائر التي مني بها النظام السابق عندما قرر الاستغناء عن الحكماء وقدم الولاء على الأداء، مفقدا حواراته مع المعارضة معنى الجدية والمصداقية.. على أن كلاما لا تنقصه الثرثرة يدور حول احترام الآخر مكانة ودوراً ومشاركة.

فمن هو الآخر إذن.. أهو جزء من تركيبة الحكومة اليمنية الراهنة..؟ وهل سيكون الأمر منطقيا عند الجمع بين الأختين: مسؤوليات الحكم ودور المعارضة؟ أقصد هل من المنطق ممارسة هذا الدور بأثر رجعي، خاصة أن التسوية السياسية نقلت طرفي الصراع التقليدي من دائرة التناقض إلى طاولة الشراكة في السلطة؟ إننا في مثل هذه الحالة لا نقصي الآخر من خلال تقمص شخصيته فقط وإنما نلغي وجوده في الأساس..!!

وإذ يحاول رأس النظام القديم إغراق الحوار الوطني المرتقب بأغلبيات عددية انتظمها ملف الإفساد السياسي سابقاً ونشأ بعضها الآخر على شاكلة أطفال الأنابيب لاحقا، إلا أننا لا نلحظ فيمن كانوا يتصدرون ثورة التغيير رغبة جدية لتقويم المشهد أو ميلاً لإعادة النظر في المسلمات الغيبية التي تحاكم النوايا وتقصم المجتمع إلى فسطاطي "مع أو ضد" .. ولو أن معايير الخير والشر..أهداف الثورة ونقائضها كانت أساساً لفرز موضوعي يؤدي إلى اصطفافات واضحة لهان الأمر، أما ومؤشرات الإعداد للحوار لا تستند على معطيات تساعد المتحاورين على فهم بعضهم فإن الحوار سيغدو مناسبة لخلط الأوراق ونصب الكمائن وفرد العضلات.

إن الفرز الموضوعي يتطلب توثيق روابط تجمع الرؤى البرامجية المتقاربة، خاصة منها تلك المعززة بمصداقية الممارسة السلوكية وتجانس المواقف السياسية وصولاً نحو مقاربات وطنية جديدة تجاوز المعايير الولائية ذات الصلة بإرث الاستبداد.

سوف يقال إن الأغلبيات العددية غير مهمة طالما أخضعت مخرجات الحوار لمبدأ التوافق، وذلك صحيح ولكن الأدق منه حاجة المتحاورين، كما هي حاجة اليمن، إلى مخارج عملية لمعضلاتها المزمنة، لا إلى تسويات مبتسرة وأغلبيات تمثيل ومؤشرات إقصاء.

إن حوار البرامج وتجاذبات الرؤى يشكلان حجر الزاوية لأي سجال جدي يعالج أدواء شعب طال مقامه في الأنفاق المظلمة وحانت ساعة إنقاذه.