تواجه إيران حالياً موقفاً خطيراً يُعتبر الأكثر حساسية منذ نهاية الحرب الإيرانية-العراقية. فقد كثَّف المجتمع الدولي ضغوطه عليها ووسَّع إطارها بحيث لم تعُد تتعلق فقط بالملف النووي، ولكنها أصبحت أيضاً تركز على تدخلها الفاضح في شؤون دول المنطقة، والضلوع في مؤامرة مفترضة لاغتيال السفير السعودي في واشنطن، والارتباط مع خلية إرهابية كانت تخطط للقيام بعمليات تخريبية في عدد من دول المنطقة بما في ذلك السعودية والبحرين، بالإضافة إلى عدد من القضايا الأخرى.

وتترافق هذه الضغوط الدولية على إيران، والتي تأتي قبيل الانسحاب العسكري الأميركي من العراق في نهاية هذا العام، مع ضغوط على سورية، حليفها الأول في المنطقة. فسورية تواجه مشاكل واضطرابات داخلية خطيرة بعد أن وصل إليها مد "الربيع العربي"، ويواجه النظام فيها أخطر موقف له منذ وصول الرئيس بشارالأسد إلى السُلطة في عام 2000. هذه الضغوط على سورية هي في النهاية ضغوط على إيران أيضاً لأن سورية تشكل الحلقة الأقوى والأهم في المشروع الإيراني في المنطقة، وخسارتها قد تؤدي إلى سقوط هذا المشروع برمته.

لكن إيران تحتفظ بأوراق هامة استطاعت من خلالها التخلص من أية عقوبات دولية ذات معنى من مجلس الأمن بسبب الدعم الذي تتلقاه من روسيا والصين. فلكل من هاتين الدولتين مصالحهما الخاصة في إيران، ولذلك فإنهما يتخذان مواقف صارمة لإجهاض أي مشروع قرار في مجلس الأمن يمكن أن يؤذي إيران بشكل فعلي.

وتواجه الصين مشكلة حقيقية في مسألة فرض عقوبات على إيران بسبب ارتباطها بعلاقات استراتيجية واقتصادية هامة معها، حيث إنها تشكل ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، فإن حل أي مشكلة عالمية لا يمكن أن يتم دون موافقة ومشاركة الصين. وحيث إنها حلت محل الاتحاد الأوروبي كأكبر شريك تجاري وأكبر مشتر للنفط، وأكبر مستثمر أجنبي في إيران، فإن من مصلحة الصين الحفاظ على علاقات ودية مع طهران. حتى عندما أيدت الصين، على مضض، فرض جولة رابعة من العقوبات الدولية على إيران مؤخراً، فإنها حرصت على التأكيد أن "الباب ما زال مفتوحا أمام الوساطة الدولية".

وقد نشر"معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" في نوفمبر الحالي دراسة أعدها مايكل سينج وجاكلين نيوماير حول العلاقات الصينية مع إيران في ضوء التطورات الراهنة في المنطقة والعالم. وتؤكد الدراسة أن الجهود الدولية التي تقودها الولايات المتحدة لعزل إيران سوف تؤدي حتماً إلى تركيز انتباه واشنطن وأوروبا على بكين. وقد تكللت المحاولات السابقة لإقناع الصين بدعم إجراءات جديدة ضد طهران بالقليل من النجاح، ويعود ذلك في الغالب إلى سوء فهم الدوافع الصينية. وإذا لم يتم إقناع بكين بأن تكاليف عرقلة الجهود الأميركية حول إيران تفوق منافع دعمها، فإن الصينيين لن يقدِّموا مساعدة تذكر. كما أن تغيير حسابات الصين بهذه الطريقة سيتطلب في النهاية قيام الولايات المتحدة بتطوير خيار عسكري حقيقي لإبطال أهداف إيران النووية.

وتقول الدراسة إنه، على مدار ثلاثة عقود، فشل الدبلوماسيون الأميركيون في ضمان قيام تعاون صيني حقيقي في مساعيهم لمنع تحوّل إيران إلى دولة نووية. وإن زيادة التجارة الصينية مع إيران - التي من المقرر أن تصل وفقاً للسفير الصيني لدى إيران إلى 40 مليار دولار في عام 2011 بعدما كانت 30 مليار دولار العام الماضي- تسهل الضغط على طهران وتوفر للنظام الإيراني مصدر دخل وخبرة وموارد أخرى. كما أن حاجة بكين المتنامية إلى واردات الطاقة ورغبتها في تأمينها بالمشاركة في استكشاف وتطوير حقول النفط والغاز فضلاً عن أنشطة أخرى "ضد التيار" من قبل مموليها في مجال الطاقة في الخارج، هي التي تدفع إلى حد كبير التجارة الصينية مع إيران. وفي الحقيقة ومن منظور أمني أن موقع إيران الجغرافي هو فريد من نوعه، ذلك فإنها الممول الخليجي الوحيد الذي يمكن للصين الوصول إليه عن طريق خطوط أنابيب النفط والطرق البحرية على حد سواء. وهذا التنوع في خطوط الإمداد يساعد على طمأنة بكين من إمكانية إطلاق حملة حظر أجنبية أو فرض حصار من شأنه أن يحرم الصين من إمداداتها من الطاقة.

لكن العلاقة بين الصين وإيران لا تتعلق فقط بالنفط والغاز. فقد قدمت الصين أيضاً مساعدات استراتيجية وعسكرية كبيرة لإيران عبر قنوات رسمية وأخرى غير رسمية. كما قدمت دعماً حاسماً لتطوير البرنامج النووي الإيراني خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وظهرت في الثمانينات كأحد الممولين الرئيسيين للأسلحة إلى إيران، مع تحويلات تشتمل على قدرات تتعلق بصواريخ كروز وصواريخ باليستية. ووفقاً لـ "معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام" بلغت قيمة هذه التحويلات أكثر من 3.6 مليارات دولار خلال تلك العقود.

وقد استمر هذا الدعم في بعض المجالات. فعلى سبيل المثال أفادت تقارير إخبارية أن أسلحة من طهران قد وجدت طريقها إلى أيدي مقاتلين في العراق وأفغانستان، حيث ذكرت هذه التقاريرأنها لم تشمل فقط صواريخ كروز مضادة للسفن صينية الصنع بل أيضاً بنادق قناصة وقذائف خارقة للدروع وقذائف صاروخية وبنادق وصواريخ مضادة للطائرات وألغام ومكونات أخرى لأجهزة تفجير. وفي مقال له في فبراير الماضي، كتب القائد السابق للأسطول الأميركي في المحيط الهادي، الأدميرال المتقاعد جيمس ليونز، عن نقل محتمل لتكنولوجيا الرادار السلبية من الصين إلى إيران، والتي يمكن أن تساهم في برنامج الصواريخ الباليستية المضادة للسفن الذي أعلنت عنه إيران مؤخراً.

لكن دعم الصين للبرنامج النووي الإيراني هو الأكثر إزعاجاً. ففي أوائل هذا العام تحركت الصين لمنع إصدار تقرير من قبل الأمم المتحدة يتحدث عن الاشتباه بتورط الصين في تحويل مسحوق ألومينيوم إلى إيران يستخدم كقاذف يعمل بالوقود الصلب لصواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية. وفي الأسبوع الرابع من أكتوبر الماضي انضمت الصين إلى روسيا في الضغط على "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" لعدم نشر معلومات دامغة تتعلق بالأبحاث النووية العسكرية الإيرانية. وفي العام الماضي نشرت مصادر إعلامية موضوع بيع شركات صينية ألياف كربونية عالية الجودة من شأنها أن تساعد إيران على بناء محطات أفضل لأجهزة الطرد المركزي.

لكن بكين عالقة في صراع بين مصلحتها في تأمين إمدادات الطاقة ومصلحتها في إيجاد علاقات طيبة مع الولايات المتحدة والجبهة العالمية لمنع الانتشار النووي. وفي كتاباتهم في المنافذ الإعلامية باللغة الإنجليزية كرر مفكرو السياسة الخارجية الصينيون من أمثال وانغ جيسي هذا الأمر. ومن منظور قيادة "الحزب الشيوعي الصيني" الذي يعتمد عليه جميع العلماء الصينيين للحصول على تأشيرات سفرهم والسماح لهم بالنشر، فمن المنطقي نشر هذه الفكرة على أمل كسب محاولات أميركية أقوى من خلال الإقناع الدبلوماسي أو الحوافز الاقتصادية.

وقد نجحت هذه الاستراتيجية إلى حد ما، ذلك أن وصفات الخروج من هذه "المعضلة" تعتمد اعتماداً كبيراً على سياسة الجزرة مثل منح الصين زيارات رسمية رفيعة المستوى وإشراكها بصورة أكثر في المداولات الدبلوماسية. ومع ذلك، يبدو أن مثل هذه الجهود من جانب واشنطن لا تثمر كثيراً. ولسنوات عدة كانت نخبة من المبعوثين الأميركيين رفيعي المستوى قد شقت طريقها بصعوبة إلى بكين في مهام تتعلق بإيران دون أن تحقق الهدف المرجو.

والواقع هو أن الصين تعتبر الولايات المتحدة منافسها الرئيس على النفوذ في الشرق الأوسط وغيره. ومن خلال رؤيتها بهذا المنظور فإن سياسات بكين تجاه إيران والولايات المتحدة لا تتعارض مع بعضها، كما يرجِّح كثير من المحللين، بل إنها متوافقة تماماً. وربما ترى الولايات المتحدة الصين شريكاً رئيساً في عزل إيران، لكن الصين ترى إيران شريكاً محتملاً في مواجهة القوة الأميركية.

وتضيف دراسة معهد واشنطن أن التفكير الاستراتيجي الصيني منصوص بوضوح في المنشورات باللغة الصينية الموجهة إلى نُخب بكين السياسية والعسكرية. وتختلف هذه الأدبيات اختلافاً كبيراً في النبرة والمضمون عن تلك التي تُنشر للاستهلاك الخارجي. فعلى سبيل المثال، إن المحلل العسكري اللواء تشانغ شيبينغ أكد في كتابه "القوة البحرية للصين" أن إيران ربما كانت موقعاً مرغوباً فيه لإنشاء قاعدة عسكرية صينية في الشرق الأوسط. وقد ردد ضباط عسكريون صينيون آخرون رفيعو المستوى الفكرة نفسها في مناقشات عن الكيفية التي تستطيع فيها الصين مواجهة التهديد المتصورالذي تفرضه دول مثل الهند والولايات المتحدة، وحماية مصالحها في وجه بروز القوة الأميركية في الخليج وعبر المحيط الهادي. ومن هذا المنظور فإن تأمين تعاون صيني مع الجهود الأميركية للضغط على إيران ليست مسألة عقد اجتماعات جيدة قليلة. على أن رعاية المؤسسة الأمنية لإيران وكذلك قيادة رفيعة المستوى توفران للصين عميلاً قوياً إقليمياً ذا موقع استراتيجي يمكن أن يحبط أهداف الولايات المتحدة في منطقة تسعى فيها الصين إلى كسب نفوذ أكبر. وبالنسبة للصين فإن اكتساب إيران لأسلحة نووية ربما يكون تطوراً سلبياً، لكنه أفضل من إعادة التوجه نحو الغرب.

وقد أكد مسؤولون أميركيون، وكانت آخرهم وكيلة وزارة الخارجية، ويندي شيرمان، أن العقوبات قد أدت إلى قيام الصين بتعليق ضخ استثمارات جديدة في الطاقة في إيران. غير أن المشروعات الصينية الإيرانية الحالية تستمر على قدم وساق وقد زادت واردات النفط الصينية من إيران بنسبة 40% بين يناير وأغسطس 2011 مقارنة بنفس الفترة من العام السابق. ويبدو أن بكين كانت قادرة على التغلب على أية توترات دبلوماسية نتجت عن تعاملها التجاري مع إيران - وهو ما يمثل السمة الحتمية منخفضة التكاليف حتى الآن للتنافس بين الولايات المتحدة والصين.

وعلى الرغم من أن التملق الدبلوماسي لن يحقق تقدماً كبيراً، إلا أنه لدى واشنطن وسيلة لحث بكين على إعادة تقييم نهجها نحو إيران. ومع ذلك، فإن ممارسة هذه الخيارات تتطلب اتخاذ خطوة تحاشتها إدارة أوباما حتى الآن، ألا وهي خلق تهديد عسكري يمكن التعويل عليه ضد إيران. كما أن استراتيجيي "الحزب الشيوعي الصيني" الذين يحكمون على المصالح الصينية بأنها مخدومة جيداً بالتوترات الحالية بين الولايات المتحدة وإيران لن يصلوا إلى نفس هذه القناعة في ضوء تهديد أميركي ذي مصداقية لنزع سلاح النظام الإيراني. ومثل هذا السيناريو سوف يهدد إمدادات النفط للصين ويزيد تكاليف الطاقة التي تحتاج إليها ويمكن أن يهدد النظام الصيني الودي تجاه إيران. ولا تحتاج الولايات المتحدة إلى نبذ أو التقليل من المخاطر الحقيقية التي سوف تصاحب الصراع مع إيران، لكنها يجب أن تقنع بكين وطهران على حد سواء بأن هذا الخيار هو البديل للامتثال الكامل للعقوبات الدولية.

كما أن جعل هذا التهديد حقيقياً لن يكون سهلاً في سياق تخفيضات ميزانية الدفاع الأميركية وتزايد الاستعدادات العسكرية الإيرانية. وينمو البرنامج النووي الإيراني بشكل متزايد وأصبح أكثر تقدماً بحيث من الصعب شن ضربة جوية عليه. وعلى الجانب الآخر، فإن خيارات إيران الثأرية المحدودة حالياً إنما سوف تتحسن فقط بمساعدة صينية. وقد درس الاستراتيجيون الصينيون بعناية القدرات والتحركات العسكرية الأميركية، ومن ثم فإن إقناعهم بموثوقية الخيار العسكري الأميركي سيكون أقل تكلفة الآن مما سيكون عليه في المستقبل.

لكن الصين يمكن أن تعدل موقفها لعدم وجود رابطة هيكلية تضمن دعم بكين لطهران. إن الإدراك بأن حرص الصين على مصالحها سوف يفوق أية صداقة مع إيران هو مفتاح الفوز في مباراة الشطرنج الجيوسياسية هذه. وفقط من خلال خلق تحدٍ ضد تلك المصالح، فإن واشنطن من المحتمل أن تُبعد بكين عن نهجها الحالي الذي فعل الكثير لزيادة وصول الصين إلى مصادر الطاقة وعزز نفوذها في منطقة استراتيجية وأحبط الطموحات الأميركية في الشرق الأوسط.