لو تتبعنا تاريخنا القديم فسنجد أن المحور الرئيس في فكرنا هو الإحجام لا الإقدام، ويظهر ذلك من خلال عصور الاجتهاد الفقهي الضئيلة وكذلك فترة نبوغ المسلمين في العلم في صدر الخلافة العباسية والتي لا تتجاوز مئة عام، ولعل الدعامة الرئيسة لهذا هو مقولة أو عبارة «مخافة أن يحدث فتنة» أو يحدث ضياع أو ضرر أو أي من هذه المخاوف، فقد انتشرت بقوة لتكون أساس التخوف من الجديد الذي نعيشه ولتبرير ما لا نجد له تبريرًا منطقيًا.. ففي عهد النبي عليه الصلاة والسلام تم تبرير نهيه عن كتابة الحديث بأنه مخافة أن يختلط بالقرآن وهذا تبرير من سبقنا ولم يذكره النبي عليه الصلاة والسلام، وتم تبرير امتناع عمر عن تدوينه بأنه مخافة أن يتلاعب عابث بالحديث، وفي العهد الأموي دشنت أخلاق الطاعة التي تؤطر لطاعة الأصغر للأكبر أخذًا من أخلاق الطاعة الكسروية، المأخوذة من التراث الفارسي كما يذكر ذلك الجابري رحمه الله، مخافة أن تنفرط سلسلة الدولة والبلاد، والتي تختلف بطبيعة الحال عن الانضباط وفق النظام فتلك طاعة رضوخية للأكبر ـ وبقيت هذه الأخلاق إلى عصرنا الحاضر مانعة من الاجتهاد والإضافة والإبداع الفردي لأن الكبار قد قالوا كلمتهم فيها. وفي القرن الرابع الهجري وأد العقل وأغلق باب الاجتهاد مخافة أن يتلاعب أحدهم بالدين، وبقينا على هذا الهاجس إلى يومنا هذا، وحرمت الفلسفة مخافة أن يشك الناس بدينهم. وفي العصر الحديث فرضت الرقابة المبالغ بها على الكتب والإعلام مخافة أن يؤثر ذلك على السلم الاجتماعي، ثم توّجت هذه المخاوف بسد الذريعة القائم على الخوف من التغريب والتشبه وغيرها.. إذا فتاريخنا مليء بهذه المخاوف، الأمر الذي أدى إلى ما نحن عليه من رتابة وضعف في مستوى تحليل الأحداث ومعرفة أسبابها الحقيقية، لأن هذا التبرير ذو وهج جذاب عند المتلقي المسكون بالمؤامرة.
وهذا ليس في تاريخنا فقط بل حتى في أوروبا أيضًا لتشابه الرتابة بين الحالتين إبان عصر الكنيسة حينما قيل للمكتشفين نخاف أن يفقد الناس الثقة بكتابهم المقدس إذا خالفه مضمون اكتشافكم، فهي من أبرز عبارات المجتمعات والبلدان والعصور الرتيبة وهي سبب من لا سبب له.. في حين وفي مقابل ذلك لم يحدث تشجيع على الإنتاج والابتكار بحجم يوازي ما أحدثته تلك المقولة، وأن الاكتفاء بالمنع بسبب الخشية ليس سلوكًا سويًا دائمًا وإنما الأفضل العمل بمبدأ سددوا وقاربوا، ومحاولة إيجاد الحلول في طريقة الاستفادة من الطرح الجديد مع عدم حدوث أضرار مجتمعية في الوقت نفسه. لكننا نجد أن الخوف يطغى على الفكرة فتُجتث من أساسها.