يَطرح هذا المقال مُقارَبةً فكريّةً مُبتكَرة، تتعلَّق بالعلاقة بين عِلم العمران الخلدونيّ وما نُسمّيهما عِلم الاجتماع الحاضن وعِلم الاجتماع الطّارِد. ويُشخِّص المقالُ بالتحديد حضورَ الصداقة أو غيابها بين عِلم العمران البشريّ وهذَيْن النوعَيْن من عِلم الاجتماع.

ربّما لم يَستعمل عُلماءُ الاجتماع المُعاصرون مصطلح "عِلم الاجتماع الطّارِد". بالنسبة إلينا، عِلمُ الاجتماع الطّارد هو عِلم الاجتماع الذي لا يهتمّ ولا يرغب في دراسة بعض المَعالِم البشريّة لدى الأفراد والمُجتمعات، نظراً لأنّ عِلم الاجتماع الوضعي يَحتضن رؤيةً معرفيّة/ إبستيمولوجيّة ضيّقة للأشياء، ما يَحرمها من الاهتمام بما يُسمّى العناصر غير الماديّة بالمعنى الكامل لمفردة الماديّة. فهذا النَّوع من عِلم الاجتماع يَطرد الظواهر والعناصر غير الماديّة من اهتماماته للفَهْم والتفسير. فعلى سبيل المثال، قادَ بعضُ روّاد عِلم الأنثروبلوجيا الهجومَ على دراسة الثقافة لأنّهم ينظرون إليها كشيء مجرَّد/ لا مادّي. فتساءلوا: هل الثقافة شيءٌ حقيقي؟ فطَرَحَRalph Linton السؤال: هل توجد الثقافةُ أصلاً؟ أمّاRadcliffe-Brown فهو يرى أنّ كلمة ثقافة لا تُعبِّر عن واقعٍ مجسَّد/مادّي، بل هي شيء مجرّد ضبابي للغاية.. ومن ثمّ، فالثقافة ليست شيئاً حقيقيّاً (Leslie White,The Concept of Cultre,1973 :26) وهكذا، فالتوجُّه الوضعيّ لهذه الرؤية الأنثروبولوجيّة يطرد ويُقصي الثقافةَ من الدراسةِ والاهتمام العِلمي بها.

عِلم العمران الرّافض للإقصاء


لا يتّفق ابن خلدون مع رؤية عِلم الاجتماع الطّارد، فيرى أنّه يجب على عِلم العمران البشري الاهتمام ودراسة الأشياء والظواهر غير الماديّة. فيكفي هنا الإشارة إلى عنوان أحد فصول مقدّمته الشهيرة لإبراز حديثه مباشرةً عن الأشياء غير الماديّة، فيُعَنْوِن المقدّمة السادسة من كِتاب "المقدّمة" هكذا: " في أصناف المُدرِكين للغَيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدَّمه الكلام في الوحي والرؤيا" (ابن خلدون، المقدّمة، بيروت، دار الكتب العلميّة 1993:73 -95). فيفصل القول في ذكر موضوعات النبوّة والوحي والكهانة والرؤيا والإخبار بالغيبيّات...، أنّها ظواهر غيبيّة عرفتها الحضارةُ العربيّةُ الإسلاميّة، ومن ثمّ لا ينبغي طردُها وإقصاؤها من اهتمامِ عِلم العمران البشري بها.

عِلم الاجتماع الطارد لظاهرة التخلُّف الآخر

الطَّرد لدى عِلم الاجتماع الغربي يشمل ما نسمّيه ظاهرة التخلُّف الآخر في مُجتمعات العالَم الثالث. إنّ ظاهرة التخلُّف التي يُلصقها عُلماء الاجتماع الغربيّون بمُجتمعات العالَم الثالث هي ظاهرة متعدّدة الملامح. فهناك ملامح التخلُّف الاقتصاديّة والصحيّة والاجتماعيّة والصناعيّة. لكنّ هناك جهلاً وصمتاً حول جانبٍ مُهمٍّ آخر لتخلُّف هذه المُجتمعات نفسها. ولقد أَطلقنا على هذا النَّوع من التخلُّف المَنسيّ اسم "التخلُّف الآخر"، الذي هو فرعٌ من ظاهرة التخلُّف الكبرى في تلك المُجتمعات. تتمثَّل بعض أعراضه في الشعور بمركّبات النقص أمام الغرب تتجلّى لدى أفرادِ هذه المُجتمعات وفئاتها في استعمال اللّغات الأجنبيّة عوضاً عن اللّغات الوطنيّة، وفي تبعيّةٍ كبيرة للعلوم والثقافة الغربيّتّيْن ونشْر القيَم الثقافيّة للعالَم الغربي. يرى منظورُنا الفكري أنّ ظاهرة التخلُّف بصفة عامّة هي نتيجة للهَيْمَنة الإمبرياليّة الغربيّة بخاصّة على المُجتمعات الإفريقيّة والآسيويّة.

ما وراء التخلُّف الآخر المَنسيّ

في وجه الصمت الأكاديمي والفكري الغربي على ظاهرة التخلُّف الآخر، نودّ ذكْر بعض الأسباب لذلك. كما هو مُنتظَر، لا يكاد يَجِدُ الباحثُ أيّة مُساعدة من عِلم الاجتماع الغربي أو عِلم الاجتماع المُتأثِّر به بالنسبة إلى تعريف التخلُّف الآخر وتصوُّرِهِ والتنظيرِ حوله. فالأميّة السوسيولوجيّة حول التخلُّف الآخر تحتاج في حدّ ذاتها إلى تفسير. ثمّة عوامل عديدة وراء غياب مفهوم التخلُّف الآخر في عِلم الاجتماع الغربي:

1- فعالِم الاجتماع الأميركي الشهير Emmanuel Wallerstein يُشير إلى سببٍ معرفيٍّ/ إبستيمولوجيّ يُعرقِل جميع عُلماء الاجتماع من القدرة على القيام دائماً بالبحث الموضوعي. يَستشهد المشرفون على كِتاب) Public Sociology,2007:16) بهذا العالِم الذي قال: " فمستحيل فطريّاً عدم تأثُّر الباحثين بقيَمِهم في بحوثهم العلميّة".

2- تستمرّ المُناقشاتُ حول عِلم الاجتماع على مستوياتٍ عديدة، ويكفي ذكرُ البعض منها. فيدعوMichael Burawoy إلى عِلم الاجتماع الشعبيPublic Sociology وترحيب الجمعيّة العالَميّة لعِلم الاجتماع بتعدُّد أصناف عِلم الاجتماع وتأليف علي مقجي Ali Meghji كِتابه "تحرير عِلم الاجتماع Decolonizing Sociology 2021"، وخصوصاً من عِلم الاجتماع الغربي. فهذه الرؤى السوسيولوجيّة تُناهِض عموماً عِلم الاجتماع الغربي المُهيْمِن الذي يتبنّى فكرة الطرد لبعض الظواهر، وكذلك لمناهج ومَعارف خارجيّة عن عِلم الاجتماع الغربي السائد.

3- ثمّة موقفٌ عامٌّ واسع الانتشار، بخاصّة بين عُلماء الاجتماع الغربيّين اللّيبراليّين الذين يدرسون التنمية والتحديث، يدّعي أنّ الموروثَ الثقافي (القيَم والتقاليد والديانات واللّغات ...) للمُجتمعات النامية يُعرقِل عمليّات التنمية والتحديث فيها. وDaniel Lerner هو مثالٌ على ذلك. ينبغي أن يفسِّر هذا الموقف غيابَ ظاهرة التخلُّف الآخر في دراساته ودراسات الآخرين للتنمية والتحديث في مُجتمعات العالَم الثالث.

عِلم الاجتماع الحاضِن

يأخذ عِلمُ الاجتماع الحاضِن بعَيْن الاعتبار العواملَ الماديّة وغير الماديّة كمؤثّرات في سلوكيّات الأفراد وحركيّة المُجتمعات البشريّة. مثلاً، هو يرفض إقصاءَ عُلماء الأنثروبولوجيا للثقافة لأنّها ظاهرة غير ماديّة، بل يَعتبرُ هذا العِلمُ الثقافةَ مَعلماً بشريّاً فريداً مُميَّزاً ويُعرِّفها كالتالي: هي مجموعة من الرموز الثقافيّة مثل اللّغة والفكر والدّين والمعرفة/ العِلم والأساطير والقوانين والقيَم والأعراف الثقافيّة. تُعتبَر الثقافةُ خاصيّةً إنسانيّة، لأنّ الثقافةَ ذات علاقةٍ وثيقة بظاهرةٍ أخرى فريدة لدى الجنس البشري وهي اللّغة في شكليْها المنطوق والمكتوب. فالجنس البشري ينفرد بالقدرة على الكتابة وحتّى باللّغة المنطوقة التي تَختلف كثيراً عن وسائل إشارات التواصُل بين الأجناس الأخرى. واللّغة هي أمّ الثقافة، أي أنّ العناصر المكوِّنة للثقافة هي وليدة اللّغة البشريّة. ومن ثمّ، تغيب العناصر/الرموز الثقافيّة لدى الأجناس الأخرى لفقدانها اللّغة البشريّة.

المَعالِم المُتعالية للثقافة وعِلم الاجتماع الحاضن

علميّاً، يُمكن الحديث عن معالِم متعالية للثقافة (ليست للرموز الثقافيّة طبيعة ماديّة) مثل أعضاء الجسم البشري والعالَم الماديّ ومكوّناتهما. وبعبارة أخرى، فالأشياء الماديّة لها دائماً وزنٌ وحَجْمٌ ماديّان. أمّا أهمّ خمسة معالِم مُتعالية للرموز الثقافيّة التي يرحِّب بها عِلم الاجتماع الحاضن فهي:

1ـ ليس للرموز الثقافيّة وزنٌ وحجْم؛ أي أنّها ذات طبيعةٍ غير ماديّة / روحيّة / مُتعاليةtranscendental . يتّفق هذا كثيراً مع رؤى الأديان والحُكماء والفلاسفة على مرّ العصور. فالقرآن، مثلاً، يؤكِّد على أهميّة أولويّة تبنّي الإنسان للرموز الثقافيّة من تعلُّمٍ للقراءة، والغَوْص في العِلم، وكسْبِ رهان التفكير الدّائم، والاتّصاف بالقيَم النبيلة مثل العدل والخلق الفاضل (وإنّكَ لعلى خلْقٍ عظيم).

2 ـ أمّا على مستوى توظيف مفهوم خلوّ الرموز الثقافيّة من عاملَيْ الوزن والحَجْم في فَهْمِ سرعة ثورة الاتّصالات، فنكتفي بذِكر بعض الأمثلة: فلماذا تَصِلُ الرسائل والوثائق المُرسَلة بالفاكس وبالوسائل الإلكترونيّة بسرعة كبيرة، مُقارَنةً بالقيام بالمُراسَلة نفسها بالبريد العادي أو حتّى السريع؟ يجوز تفسير ذلك في أنّ المُراسلة الإلكترونيّة، وبالفاكس، تلغي عاملَيْ الوزن والحَجْم فيُصبح الشيء المُرسَل متعالياً. فالغياب المُطلَق للوزن والحَجْم في منظومة الرموز الثقافيّة يؤهِّلها للتنقُّل بسرعةٍ فائقة وعجيبة. وهذا ما يفسِّر أيضاً مدى شدّة سرعة تنقُّل الكلمة عبر الصوت. وتَرجع هذه السرعة الخاطفة لكون أنّ الكلمة المنقولة عبر الصوت في النداء البسيط على مسافة قريبة بين الأفراد أو أثناء الكلام بالهاتف على مسافاتٍ بعيدة هي كلمة ليس لها وزن وحَجْم. وبالتالي فهي طليقة سريعة بطبيعتها لا يُعرقِل تنقُّلَها السريع الوزنُ والحَجْم. وهكذا تتجلّى عجائب الثورة الإلكترونيّة، ويتحسَّن فَهمُنا وتفسيرُنا لها بمساعدة طبيعة الرموز الثقافيّة الخالية من عاملَيْ الوزن والحَجم.

3- لا تتأثّر الرموزُ الثقافيّة بعمليّة النقصان؛ فإعطاء الآخرين خمسين ديناراً من رأس مالِنا وقنطاراً من قمحنا يُنقِص ممّا هو عندنا. أمّا إذا مَنَحْنا الآخرين شيئاً من عِلمنا وقيَمِنا الثقافيّة ولُغتِنا... فإنّ ذلك لا يُنقِص شيئاً من كلّ واحدٍ من رموزنا الثقافيّة المُتعالية عن النقصان.

4- للرموز الثقافيّة قدرةٌ كبيرةٌ على البقاء طويلاً عبر الزمان في المُجتمعات البشريّة، إذ قد يصل مدى بقائها درجة الخلود. فاللّغة لها قدرة فائقة على تخليد ما يُكتب بها. فالفكر البشري لا يُكتب له الاستمرار والخلود الكاملان من دون أن تَحتضنَ مضمونَه اللّغاتُ المكتوبة على الخصوص. فما كان لفكرِ كلٍّ من أرسطو وابن خلدون وديكارت وغيرهم من المفكّرين والعلماء ... أن يتمتّع بمدى حياة طويلة من البقاء من دون حفْظه في حروف اللّغات البشريّة وكلماتها التي تؤهّله لكسْب رهان حتّى الخلود. أمّا على مستوى الحفاظ وتخليد التراث الجماعي للمجموعات البشريّة، فإنّ للّغاتِ دَوراً بارزاً. فاللّغات المكتوبة بخاصّة تُمكِّن المجموعات البشريّة من حماية ذاكرتها الجماعيّة والمُحافظة عليها وتخليدها. فمُحافَظة لغة الضادّ مُحافظةً كاملةً على النصّ القرآني خَير مثال على مقدرة اللّغة التخليديّة بالنسبة إلى صيانة الذاكرة والتراث الجماعيّين.

5- تملك منظومةُ الرموز الثقافيّة قوّةً هائلة تَشحن الأفراد والمجموعات بطاقاتٍ كبيرة تمكِّن أصحابها من الانتصار على أكبر التحدّيات بكلّ أصنافها. فعلى سبيل المثال، قد أَثبتت قيَمُ الحريّة والعدالة والمساواة عبر التاريخ البشري الطويل أنّها رموزٌ ثقافيّة قادرة على شحْنِ الأفراد والمجموعات بطاقاتٍ هادرة جبّارة تُشبه إلى حدٍّ ما القوى المتعالية/ الماورائيّة الصاعقة التي لا يستطيع أحدٌ اعتراضَ سبيلها. وهذا ما يوحي به قول الشاعر العربي التونسي أبي القاسم الشابي:

إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يَستجيبَ القدر

بعد بيان الجوانب غير الماديّة /المتعالية للرموز الثقافيّة التي يَنفر منها عِلم الاجتماع الطّارد، كما رأينا، ننظر الآن إلى رؤيةِ عِلم العمران الخلدوني المُناصِر لعِلم الاجتماع الحاضن.

الجابري وعِلم العمران الخلدونيّ الحاضِن

يشير ابن خلدون في كتاب "المقدّمة" إلى أنّه يحتضن منظور عِلم الاجتماع الحاضن. يتجلّى ذلك بالتحديد، كما ذكرنا، في مطلع كتاب "المقدّمة" في "المقدّمة السادسة" حيث عنون هذا القسم: في أصناف المُدرِكين للغَيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة ويتقدّمه الكلام في الوحي والرؤيا. يرى المفكّر محمّد عابد الجابري أنّ بعض المفكّرين العرب والغربيّين يدَّعون أنّ عِلم العمران فَقَدَ موضوعيّته ومنطقيّة تحليله في آخر فترة من حياة صاحب "المقدّمة". فيَعتبر هؤلاء أنّ مُناقشة ابن خلدون وتحليله لبعض الظواهر مثل النبوّة والصوفيّة والعناصر الغيبيّة..إلخ علامة على خروجه على منطق العقل. اعترضَ الجابري على هذا الادّعاء بشدّة: "فإننا نرى أنّ البحوث التي تتناول هذه المسائل (الغيبيّات والروحانيّات والحالات النفسيّة...) في "المقدّمة" ليست بحوثاً استطراديّة، بل هي جزء لا يتجزّأ من الهَرَم العمراني الخلدوني.... وفي رأيي أنّ "مقدّمة" ابن خلدون، سواء من حيث مضمونها أم من حيث ترتيب فصولها وتتابُع فقراتِها، وتناسُق أجزائها، تشكِّل بناءً هَرميّاً مُتماسكاً"(الجابري: العصبيّة والدولة،1992: 115-116). فالجابري يرى أنّ ابن خلدون كان شديد الالتزام بقواعد التفكير المنطقي في تحليله وعند قيامه بإرساء قواعد حركيّة العمران البشري وقوانينه في صفحات "المقدّمة". فإنّ تحليله لعلم الظواهر الماورائيّة (النبوّة، الأحلام، التصوُّف ...إلخ) لا يُعَدّ انحرافاً عن الإطار المنطقي العقلاني؛ فالظواهر الماورائيّة تشكِّل وجهاً قائماً بذاته من وجوه الحياة الاجتماعيّة. فسعى ابن خلدون إلى التوصُّل إلى "مبرّرات" مقبولة لحضور هذه العناصر الغَيبيّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة. فإنّ اعتقادَ ابن خلدون في "الغيبيّات" لا يطعن في تفكيره، لأنّ عِلم العمران هو عِلم اجتماع حاضن. ومن ثمّ، فمحاولة ابن خلدون إخضاع جميع هذه الظواهر، ومن بينها الكهانة والسحر، للبحث العقلي أمرٌ مشروع في رؤية عِلم العمران الحاضن.

*عالِم اجتماع من تونس

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.