مشى التوحيدي على الدرب نفسه، و"سَلك مَسلك الجاحظ في تصانيفه" كما قال ياقوت الحموي. وهو الذي (أي التوحيدي) أَثرى المكتبةَ العربيّة بكُتبٍ ذاعَ صيتها، وما تركت مكاناً في الرقعة العربيّة إلّا واستوطنته، نظراً للثراء والتنوُّع المعرفي الذي دمغها، والعبارة العذبة التي ميّزتها بعدما غاصَ فيها التوحيدي ومتح منها، ونظراً أيضاً للأفكار المُلفتة والمفاجئة التي عبّر عنها صاحب "البصائر والذخائر" بجرأةٍ وحصافة كبيرتَيْن. ولعلّ أبرز فكرة تسلبُ القارئ عقلَه وتستميلُ ألبابَه هي تلك التي استفاضَ في الحديث عنها في كتابه العاصف الذي ألّفه بمعيّة ابن مسكويه والمكنّى بـ: "الهوامل والشوامل"؛ وأقصد: الاسترسال إلى الموت. ولعمري إنّها فكرة مدهشة، وصاعقة، لكونه عبّر عنها في زمنٍ كان الحديث في الغيبيّات من المحظورات (عاش في القرن الرّابع الهجري). لعلّ ما يرمي إليه فيلسوف الأدباء هو أنّ الموت قدرٌ حتميٌّ، لا أبَقَ عنه، فلمَ المرء يتوجّس منه، خاصّةً أنّ الألم يكون قَبل الموت لا بعده، كما أنّ الموتَ هو الخلاص النهائي من تصاريف الأحوال العصيبة التي تُنهك الإنسان، وقد تجعلهُ غارقاً في بركة الأسى والقلق. ومن ثَمَّ فإنّ ياقوت الحموي كان مُحقّاً في وصف التوحيدي بأنّه "كان متفنِّناً في جميع العلوم من النحو واللّغة والشعر والأدب، (...)، وكان جاحظيّاً يسلك في تصانيفه مسلكه ويشتهي أن ينتظم في سلكه، فهو شيخٌ في الصّوفيّة، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، (...)، وإمامُ البلغاء"(معجم الأدباء، تحقيق: إحسان عبّاس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1993، ص1924). بعد قرونٍ من توديع أديب الفلاسفة، كَتَبَ فيلسوفٌ فرنسيٌّ متطيّر الشهرةِ قولةً أنيقة أراها امتداداً حقيقيّاً لِما سال عنه مداد التوحيدي. يقول ميشيل دي مونتين أحد أعلام النّهضة الأوروبيّة البارزين: "التفلْسُف هو تعلُّمُ الموت" (يُنظر: يوسف هريمة، 2021).
إنّ أبا حيّان قد دعا إلى الاسترسال إلى الموت بلا جَزَع، وحثّ على "الاستهانة بالموت" (البصائر والذخائر، تحقيق: أحمد أمين، دار آفاق، القاهرة، ط1، 2020، ص109)، وبعد ستّة قرونٍ يزعم مونتين أنّ التفلْسُف هو تدرُّبٌ على الموت. وممّا سبق ينشأ أنّ التوحيدي كان يتفلسفُ، سواء أدرك ذلك أم لم يفعل، ليُتحِفَ القارئ بالعبارات الفلسفيّة الخلّاقة، والمُدهشة. وأرى أنّ ما قدّمه التوحيدي اتّسم بالمعنى القويم، واتَّصف باللّفظ المسجوع، وانفردَ بالعُمق الفلسفيّ والعرض الحصيف للأفكار النيِّرة والفتّانة، وتوفَّق في الجمْعِ بين حُسن الشّعر ومَلاحة النّثر، وذلاقة اللّسان الذي يقطرُ جزالةً وحلاوةً تُلقيان بالقارئ في دواليب الزّهو. ولتبيان فرادة التوحيدي نقرأ له في "مثالب الوزيرَيْن": "إذا أبصرتِ العينُ الشّهوة عَمِيَ القلبُ عن الاختيار. مَن رأى الموتَ بعَيْن أَمَلِهِ رآه بعيداً، ومن رآه بعَيْن عقله رآه قريباً. العقلُ صفاء النّفسِ، والجهلُ كدَرُها. (...) وإنّ الله تعالى أضاف إلى كلّ مخلوقٍ ضدّه ليدلّ على أنّ الوحدة له وحدهُ" (تحقيق: إبراهيم الكيلاني، دار الفكر، دمشق، ط1، 1961، ص256).
كان التوحيديُّ سبّاقاً إلى انتقاء الحكايات الظريفة والنوادر الطريفة والشيّقة التي عرفها العرب القدامى، وتوارثوها، ليرويها بمهارةٍ حاذقة في قالبٍ نثريّ وبأسلوبٍ مرسلٍ فاتنٍ؛ ما جَعَلَ كُتبَهُ متأرجحةً بين المتعة؛ حيث إنّه اختار حكايات مسلّية يجد فيها المغلوب مُتعتَه، والمكروب راحتَه وكأنّه يُطبِّق حرفيّاً ما ذكره القيرواني في "زهر الألباب وثمر الألباب": "القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان فاطلبوا لها طرائفَ الحِكمة". (شرحه: محمّد البجاوي، ط1، 1953، ص160). وحينةً أخرى ما يفتأُ يذكر مآسي العابرين في الحياة التي تُدمي القلب وتُغرقُ النَّفسَ في عوالم التّعاسة والجزع، بيد أنّ تراجيديّتها فيها فائدة للإنسان الذي بإمكانه أن يستغلّها إيجابيّاً وينهل منها الحِكم والعِبر الثاوية فيها لتلافي الوقوع في الهفوات نفسها، وقد تُمتِّعُهُ أيضاً بطُرقٍ ناجعة لمُواربة بلاوي الدّهر العسيرة.
كما أنّ التوحيدي كان كريماً مع قرّائه وكانت العبارات الوعظيّة المنضوية على الكثير من النُّصح تحتلّ جزءاً كبيراً من كُتبه، ولا يكاد المتلقّي يقرأ صفحة أو صفحتيْن من دون أن يجد نصيحةً سَنِيّة ستُسعفه أمام مطبّات العَيش. نقرأ له في هذا الصدد: "وحُبّ الجاه، وحُبّ الرئاسة، وحبُّ المال، مهالكُ الخلق أجمعين" (التوحيدي، الصداقة والصديق)، ونقرأ أيضاً: "من قَدِرَ أن يُحرَّر من أربع خصالٍ لم يكُن في تدبيره خَلَلٌ: الحرص، والعُجب، واتِّباع الهوى، والتَّواني" (البصائر والذخائر، ص265). ومجملُ القول: إنّ ما ذكره التوحيدي في هذه العبارة المُقتضَبة، والذكيّة، والعميقة، يختزلُ الكثير من الملاحِم والحروب التي قامت على السّلطة، ويُبيّن مدى خبْث الإنسان في نصب الدسائس والكمائن لأخيه الإنسان قصد الظّفر بأشياءٍ زائلة. ومن ثمّة فإنّ داء الهلاك يشرعُ في نخْرِ المرء مُذ بدأ دبيب الهوى يمور في داخله، وصدره يفور من مكايد الشّيطان ووساوسه.
نجح التوحيدي، في تقديري، في التوغُّل في النَّفس البشريّة، حينما حذّر الإنسان من مصيدةِ الهوى، وأكّد أنّ العقل إذا كان راقداً والهوى مُستيقظاً فلينتظر الانغمار في دوّامة المثالب، وسيصيرُ حينها معيبةً ومعرّة، يُعاقرُ الوحدة، بعدما صارتِ الألسن تتغنّى به شفقةً وإذلالاً. ولعلّ المُدهش أنّ التوحيدي حذَّر من رقاد العقل، وليس نومه، ولعَمري إنّ هذه قرينة دامغة على أنّه لوذعيٌّ كبير. معلومٌ أنّ مُقدّم النوم يسمّى نعاساً، والنوم المتقطّع هجوعاً، والنوم الطويل يُطلَق عليه: رقاداً. وأكّد، في هذا المضمار أيضاً، في "البصائر والذخائر" أنّ "العقل وزيرٌ ناصِح، والهوى كيلٌ فاضح". وربما تنِمُّ هذه العبارة عن عُمق نظرته للنّفس البشريّة، وإدراكه لخبايا التجربة الإنسانيّة، وذلك يظهرُ جليّاً حينما وصفَ الحُسّادَ بأنّهم "مناشيرٌ لأنفسهم" (البصائر والذخائر، ص135). أعتقد اعتقاداً جادّاً أنّ التوحيدي كان مُحِقّاً في هذا الوصف بحُسبان أنّ المَرضى بالإحنِ والضغائن يغرقون في دوّامة المُعاناة، وملامِحُهم ما ينفكّ الوجومُ يستشري فيها، حيث إنّ ما في القلب ينعكس على الوجه، الذي هو بمثابة ناقلٍ لكلّ ما هو جوّانيّ.
لهذا السبب أَحرقَ كُتُبَهُ
ولعلَّ ما يَجعل النَّفسَ تفور، والقلبَ يُنشطرُ، هي تلك التراجيديا الكبيرة التي عاشها التوحيدي في حياته، ولم يَنَل، على الرّغم من إنتاجه الغزير والنَّوعي في الأدب والفلسفة، الاهتمامَ المَرجوّ، ولم يحظَ بالمَنزلة التي تليق به، سواءٌ من سُدّة الحُكم التي عاصَرها، أم من طَرف أفناء البشر. ويتجلّى ذلك الضَّنك في أنّه عاش فراغاً عاطفيّاً كبيراً لم تملأه أيّة امرأة، ولم يَعرف أنيساً يُخفِّف عنه وعورةَ الزمن، ويلطِّف مشاعره كلّما استولى عليه التبرُّم من الحياة. لذا كان جلّ الوقت مُنعزلاً، مُنكبّاً على التحصيل والتأليف، مُحاولاً بذلك مُداواة قلبه المخروم بالخَيبات والانكسارات المتوالية. وبالتالي فقد شكَّلت حياتُه مادّةً دسمة لكلّ مَن يودّ أن يؤلِّف عن شخصيّة أدبيّة فريدة عاشت حياةً بئيسة لا معنى فيها لانشراح الأسارير. وهذا الشقاء الذي لحِق التوحيدي، أو كما سمّاه محمّد الشيخ بـ "الشخصيّة القلِقة في التراث العربي الإسلامي"، جَعله يمضغ الحسرة، ويستأثرُ به التأفُّف والاستياء من الحياة لذلك "حَرَقَ كتبه، وبعضها غسلها بالماء" معبِّراً بفعلته تلك عن ترحه الحادّ. وتزكيةً لهذا الزَّعم نقرأ في هذا السياق: "النّار التي نَشبت ما أُضرمت بفعلِ فاعلٍ، وإنّما كانت من عمل صاحب البيت نفسه، رغبةً منه في إحراق كُتبٍ كان قد كَتبها، وذلك باعتبار ما زعمه من قلّة جدواها، وضنّاً بها على مَن لا يعرفُ قدرها بعد موته" (محمّد الشيخ، مع التوحيدي في شقوته، ط1، 2012، ص7). على الرّغم من أنّ التوحيدي يُصنَّف من ضمن أسياد النثر في التراث العربي الإسلامي، وحظيَ مُنجزُهُ الأدبي والفلسفي، بعدما انتصر عليه هادمُ اللّذّات في أواخر القرن الرّابع الهجري، بالاهتمام الذي يليقُ به: تحقيقاً ودراسةً، لكنّ هذا لا يمنع من إلقاء نظرة عن "منحوس الحظّ في زمانه" (محمّد الشيخ، ص11)، لمعرفة الأسباب التي كانت وراء ذلك الإهمال الجلف، والذي كان من تبعاته شظف العيش والبؤس. فقد كان يقضي جلّ الوقت مصاحباً للعزلة الاضْطراريّة لا المُختارة، يَرتدي ملابساً بالية لا تليقُ بـ "إمام البُلغاء" وشيخ النّاثرين، يُعايِن قسوةَ الزمن التي عانقته طيلة حياته، بل الأنكى أنّها لازمته حتّى في مساء عُمره. وهذه الرحلة الشاقّة، والمُضنية، التي عاشها صاحب "المُقابسات"، جَعلت باحثين عدّة يصفونه بأنّه أكثر "مفكّر عربيٍّ قسا عليه الزَّمن" (محمّد الشيخ، ص11). لذا فلا غرابة أن يُصادف القارئ تكرارَ شكوى التوحيدي لقسوة الزّمن في مجمل كُتبه. وتأكيداً لذلك نَجد في هذا النّص شكوى صريحة من تكالُبِ بوائق الزمان: "ولكن ما أضرّ بي ما أراه فساد الزمان، واضْطراب الوقت، وانتكاث مرائر الدّين (...) والله لقد أصبحتُ وما لي صديقٌ أتنفّسُ معه، ولا عدوٌّ أنافسهُ، ولا غنىً أستمتعُ به، ولا حالٌ أغبط بها، ولا مرتبةٌ أُحسد عليها" (يُنظر: مع أبي حيّان التوحيدي في شقوته، ص11، مع بعض التصرّف). ويُمكن أن يلحظَ القارئ، في جلّ ما كَتب التوحيدي، تقريعَهُ المُبالَغ فيه لكلّ مَن فَعَلَ سوءاً في حقّه، حتّى وَصَفَهُ ياقوت الحموي بأنّ "الذمَّ شأنهُ والثلَبَ دكّانه" (معجم الأدباء، ص1924)، وذلك يتبدّى بجلاءٍ كبير في السّعاية القويّة للصاحب بن عبّاد وابن العميد في "مثالب الوزيرَيْن" حينما وصف أحدهما مُظْهِراً مقابحه قائلاً: "يحسد كلّ من كتب فأحسن الخطّ، وأجاد اللّفظ، وتأتّى للرسم، وملَّح في الاستعارة، وكان إذا سمع من إنسانٍ كلاماً منظوماً، ومعنىً قويماً، ولفظاً مسجوعاً، ونَثراً مطبوعاً، وبياناً بليغاً، وعَرضاً حكيماً، انتقص طباعه، وذهب عليه أمره، وتبدّد حلمه، وزال عنه تماسكه، والتهب كأنّه نار" (مثالب الوزيرَيْن ص82-83).
صفوة القول: ينشأ ممّا سبق أنّ صعوبة الحياة وعسرها، ومشاقّ الزمن، قدّما للقارئ العربي ناثِراً فذّاً، امتلكَ مقاليد اللّغة العربيّة، واعتنى بتضاريسها، ليُتحفَ المكتبة العربيّة بكُتبٍ تستحقّ النّظر وقمينةٌ بوافر الاهتمام، ويُمتِع القارئ بنوادره وحِكمه وطرائفه التي قد لا تنقضي عدّاً، ومن ثمّ لا غرو بأنْ يصل ذلك بالقارئ إلى الاستمتاع بشقائه؛ إذ إنّ شقاءهُ يعني انسيابيّة روعة العبارة، وتدفُّق الإبداع الأدبي والفلسفي الخلّاب، وتلطيف حاسّة المنهوم بما أنتج، والسفر بالعقل إلى عوالم تُجافي الواقع. إنّ أبا حيّانٍ التوحيدي هو لحظةٌ فارقة في التراث العربي الإسلامي، لأنّه استطاع أن يَجمع ما لا يُجمع في يدٍ واحدة (الأدب والفلسفة)، وانفرد بخواصٍّ تفرّقت في غيره، والأغرب هو أنّه على الرّغم من الشّقاء الذي ألِف التوحيدي واستأنس به، فإنّه ظلّ متشبّثاً بالأمل في الحياة عبر الكتابة والتأليف، وربّما هي التي كانت تروِّح عن نَفْسه المكدودة والمُثقلة بالهموم والأعباء ليستمرَّ في الإنتاج المُغري والمُلهِم. وقد يخالُ إلى القارئ أنّ أبرع من روَّض الشقاء هو التوحيدي، لأنّه عرِفَ كيف يُجاري كلّ ذلك الثّقل، مُستمرّاً في خَوْضِ غمار الحياة والكتابة حتّى جاوَز الثمانين. وإجمالاً فإنّ التوحيدي نموذجٌ بارِزٌ للصبر والجَلَد وتحمُّل ضحالة العالَم، ونموذجٌ جليّ لكلّ مَن يتّخذ الكتابةَ شكلاً من أشكال مُقاوَمةِ مِحَن الحياة.
*باحث في الفلسفة من المغرب
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.