أول ما لفت الأنظار في ما طرحته الرؤية هو الطموح الكبير الذي كان سمة واضحة لكل الأهداف، وهو ما جعل بعض المؤسسات الاقتصادية والمتابعين في الخارج يتساءلون عن إمكانية تحقيق هذه الطموحات الضخمة وفق التواريخ المحددة، ولا تثريب على هؤلاء، لأنه لم تتح لهم الفرصة للتعامل مع سمو ولي العهد - حفظه الله - بصورة قريبة، ولم يتعرفوا على آلية العمل التي يتبعها، والتي تركّز على التحلي بالواقعية، واستصحاب الإمكانيات، وتقييم الطموحات، ورصد كافة عناصر الإنتاج وتوفير جميع عوامل النجاح، ومن ثم تكون المتابعة اللصيقة حيث لا عذر لأي تقصير أو تهاون.
وهؤلاء ربما لم يتعرفوا على الشعب السعودي عن قرب ولم يدركوا قدرته الفائقة على تجاوز الصعاب وإصراره الكبير على قهر المستحيل وتحقيق أهدافه، كيف لا وهو الذي اختصه الله سبحانه وتعالى بقيادة واعية ملهمة تتقن فن الإصغاء لمتطلباته وتجيد العمل على إنجاز رغباته وتولي أهمية كبرى لتحقيق كل ما يؤدي إلى ترقية واقعه وضمان مستقبل مشرق لأبنائه.
وجاءت الرؤية بمثابة وصفة شاملة لإصلاحات متعدّدة يحتاجها مجتمعنا. لذلك يمكن القول إنها نبعت من داخل الشعب ومن احتياجاته وتطلعاته. لذلك كله، ما إن بدأ التنفيذ الفعلي لبرامجها ومشروعاتها حتى تدافع الشعب السعودي للمشاركة في إنجازها وتجسيدها على أرض الواقع، لأنه يعلم يقينا أنه المعني الأول بها، وأنها تخصه وحده دون سواه، وأن نتائجها الإيجابية سوف تنعكس على واقعه ومعاشه. لذلك انخرطوا في تنفيذها بمنتهى الحماس والرغبة في الإنجاز، وهو ما أطلق عليه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - وصف «الشغف».
الآن، وبعد ثماني سنوات من ذلك التاريخ، وقبل الآجال الموضوعة لتحقيق أهداف هذا المشروع الوطني العظيم، قطعت المملكة شوطا كبيرا في تنفيذ مخرجات الرؤية وبدأت ثمارها في الظهور وذلك لسبب رئيسي هو أنها لم تكن مجرد أمنيات وأحلام، بل كانت رصدا دقيقا للواقع، ومعرفة بالإمكانات، لذلك فقد تم إنجاز كثير من هذه الأهداف قبل التواريخ المحدّدة، وهذه ثمرة التخطيط العلمي السليم والتنفيذ الذي يلتزم بتحقيق الأهداف في أوقاتها.
ويكشف التقرير السنوي للعام 2023 مقدار ما تم إنجازه حتى الآن، ويسلط الضوء على أداء البرامج المختلفة، حيث تعد 87 % من المبادرات البالغة 1.064 للعام الماضي مكتملة أو تسير على المسار الصحيح، فعلى الصعيد الاقتصادي ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للمملكة وبلغ 2.96 تريليون ريال مقارنة بخط الأساس البالغ 2.7 تريليون ريال سعودي. كما تعاظمت قيمة الأصول المدارة لصندوق الاستثمارات العامة والتي كانت تبلغ 2.09 تريليون ريال في عام 2016 إلى 2.81 تريليون ريال حاليا.
ونتيجة للتطوير المتواصل الذي شهده القطاع غير النفطي، والاهتمام الموجّه نحو ترقية قطاعات السياحة والصناعة والاستثمار، فقد ارتفع تصنيف المملكة عالميا في العديد من المؤشرات، حيث احتلت المركز 17 عالميا بين 64 دولة الأكثر تنافسية، والثاني في مؤشر الأمن السيبراني، والثالث بين دول مجموعة العشرين من حيث الأداء العام وفي مؤشر السوق المالية، والسادس في محور الأداء الاقتصادي، والمركز 11 في محور كفاءة الحكومة، والمركز 34 في البنية التحتية.
ومن أكبر المكاسب التي تحقّقت خلال السنوات الماضية تمكين المرأة وإزالة العقبات التي كانت تعترض طريقها ورفع مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، إضافة لتطوير مهارات الشباب وإيجاد المزيد من الفرص الوظيفية للكوادر الوطنية المتميّزة وتمكينها من المنافسة في سوق العمل، عبر زيادة ابتعاث الشباب للدراسة في أرقى الجامعات بالخارج، إضافة إلى البرامج التدريبية الرفيعة داخل المملكة وخارجها.
وتبرز في هذا الجانب النهضة التشريعية غير المسبوقة التي تشهدها المملكة في الوقت الحاضر، والتي مهّدت الطريق نحو العديد من النجاحات، لأن المنظومة القانونية هي الأساس الذي تقوم عليه كافة معاملات الناس وحياتهم. لذلك أبدت القيادة على أعلى مستوياتها اهتماما بالغا باستكمال المنظومة التشريعية، حيث تم استحداث سلسلة من القوانين التي تواكب العصر وتفي بالاحتياجات، مما جعل بلادنا قبلة للمستثمرين الأجانب الذين يأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم.
ولن تكفي مثل هذه المساحة بطبيعة الحال لرصد كل النجاحات التي تحققت خلال السنوات الماضية، فهي تشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية، ويكفي الإشارة للمكانة التي أصبحت تحظى بها المملكة على الصعيد العالمي، ومدى قدرتها على المنافسة، والدليل على ذلك فوزها باستضافة معرض إكسبو 2030، بعد أن اختارها العالم في منافسة مع مدينتي بوسان في كوريا الجنوبية، وروما في إيطاليا، إذ حصلت المملكة على 119 صوتًا تمثل الأغلبية، وكذلك فوزها بتنظيم منافسات كأس العالم 2034.
كل المؤشرات توضح تماما أن المملكة في طريقها لتصبح قوة اقتصادية عالمية مؤثرة، وهو ما يتطلب منا جميعا أن نكون بحجم تلك الآمال والتطلعات، فقد حان أوان حصاد ما تم زرعه خلال الفترة الماضية، ولا مجال للتفريط فيه، وهو ما يتطلب منا جميعا تقوية اللحمة الوطنية، وزيادة الالتفاف حول هذه القيادة الرشيدة التي لا تفتأ تطرق كل يوم بابا جديدا يقودنا نحو المجد والرفعة.