احتلال العراق من قبل الأميركيين خارج إطار الشرعية الدولية، وبخروج متعمد على قرارات مجلس الأمن تحت ذريعة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وإقامة علاقات مع تنظيم القاعدة. وبعد تكشف زيف تلك الذرائع، استبدلت الذرائع بالحديث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان والعراق الجديد.
وتم اعتماد عملية سياسية بنيت على القسمة بين الإثنيات والطوائف. وفي هذا السياق، جرى استبعاد أعضاء الحزب الذي قاد السلطة في الثلاثة عقود ونصف العقد التي سبقت الاحتلال، عن المشاركة بالعملية السياسية تحت شعار اجتثاث البعث.
ومنذ سقوط بغداد في أبريل 2003م، اندلعت المقاومة الوطنية للاحتلال، وتمكنت من تحقيق ضربات قوية أجبرت المحتل على الانسحاب، وتسليم السلطة إلى القوى التي جاءت على ظهور دباباته، والتي تعاطت إيجابيا مع العملية السياسية التي هندس لها المندوب السامي الأميركي، بول برايمرز، ليصبح العراق رهينة بين الحكومة المعينة من قبل الاحتلال ونظام الجمهورية الإسلامية وحلفاء طهران.
لم يتحقق ما وعد به المحتلون، من تحويل العراق إلى واحة للديموقراطية، بل عانى من الفوضى والقتل على الهوية. وجرى تهجير متبادل لعشرات الألوف من العراقيين من منازلهم، لتعاد هيكلة العاصمة بغداد، ومدن عراقية أخرى على أسس طائفية. واضطر أكثر من خمسة ملايين عراقي للرحيل عن وطنهم، إلى الخارج، هروبا من فرق الموت.
سقط مئات الألوف من القتلى، جراء الصراع الطائفي جراء طغيان حالات الانتقام والثأر التي ارتبطت بالعملية السياسية الأميركية. وتعاطى العراقيون يوميا مع قنابل التفجير وعشرات السيارات المفخخة. وشهدت سجون أبوغريب والمطار والجادرية ما تقشعر له الأبدان من عمليات قمع وتعذيب، وهتك للأعراض وانتهاك للحرمات، أصبحت مواضيع رئيسية لكبريات الصحف العالمية وفضائيات التلفزة. ولم تتمكن الحكومة المعينة من المحتل حتى يومنا هذا من ضبط الأوضاع وتحقيق الأمن والاستقرار للعراقيين.
ومن جهة أخرى، لم تتمكن المقاومة العراقية، رغم بسالتها والتضحيات الجسيمة التي قدمتها، بسبب الحصار المفروض عليها من حسم الصراع لصالحها رغم الإعلان عن انسحاب المحتل. والنتيجة أن النصر السياسي الذي حققته المقاومة لم يترجم في شرعية ثورية تمكنها من استعادة العراق العربي الحر، وتحقيق صبوات العراقيين في الحرية والكرامة والاستقلال وتقرير المصير.
وليس مقبولا، بعد أكثر من تسع سنوات على الاحتلال، واستمرار انعدام الأمن والاستقرار في هذا البلد العزيز أن يقف العرب متفرجين على أشقائهم، وهم يتعرضون لانسحاق إنساني وقتل على الهوية قل أن يوجد له نظير. ولن يكون مجديا الانتصار لفريق على حساب آخر، لأن ما ينتج عن ذلك لن يكون سوى تسعير الصراع الطائفي وتفتيت الوحدة الوطنية، وبقاء أرض السواد في عزلة عن انتمائه القومي ومحيطه العربي.
لا بد من حل خلاق ومبدع، يستند على استعادة الوحدة الوطنية بين العراقيين. والخطوة الأولى على هذا الطريق هي رفض إفرازات الاحتلال الأميركي للعراق جملة وتفصيلا، بما في ذلك العملية السياسية التي استندت على المحاصصة بين الطوائف، وإلغاء قرارات الاجتثاث التي ارتبطت بالاحتلال.
إن ذلك يعني بداهة أن يمتلك العراقيون القدرة على الإمساك بزمام مقاديرهم، ويغلبوا الهوية الوطنية على ما عداها من الهويات الجزئية. وأن يصاغ دستور جديد للبلاد، يؤكد انتماء العراق للوطن العربي، ويعيد لحضوره التاريخي الاعتبار، لتعود الانتماءات الطائفية والهويات الجزئية للخلف، لصالح الهوية الجامعة.
ويتطلع الكثير من العراقيين، إلى صياغة برنامج لإخراج العراق من النفق الذي يغرق فيه.. برنامج يؤكد على المصالحة بين العراقيين، وقيام حكومة انتقالية وطنية، تمثل مختلف مكونات النسيج العراقي، ويكون من مهامها الانتقال بالعراق من الحالة التي وضعه فيها المحتل، إلى حالة الدولة المدنية، حيث الديموقراطية وتداول السلطة، والإعلان عن دستور جديد، يعيد الاعتبار للهوية الوطنية، وينأى عن مشاريع القسمة والتفتيت، ويرفض الهيكلية الطائفية.
وسيكون من المهم تشكيل لجنة مستقلة لصياغة الدستور، يجري اختيارها من فقهاء ضليعين بكتابة هذا النوع من المواثيق، ركنه الأساس التسليم بالندية والتكافؤ والمساواة في الحقوق بين مختلف الطوائف والأقليات القومية، اعتمادا على سيادة مفهوم المواطنة. وتحقيق انتخابات نيابية، برقابة دولية لضمان نزاهتها، وأن تكون منسجمة مع روح الدستور ونصوصه، بعيدا عن اعتماد الهويات الجزئية، في تحديد الدوائر.
ويحدد الدستور، طريقة انتخاب رئيس الدولة، الذي يفترض فيه أن يكون من أب وأم عراقية، ضمانا لتجنب حدوث أي اختراقات إقليمية، خاصة في هذا المنعطف الخطير من تاريخ العراق. وسيكون مفيدا أن يجري تعميم ذلك على الانتخابات النيابية وتعيين الوزراء، والمناصب الرئيسية في الدولة.
وبالنسبة لشمال العراق، فإن وضعيته الخاصة، تقتضي الحذر عند سن القوانين واللوائح في الدولة المركزية. والأجدى أن تبقى علاقته بالدولة المركزية، كما هي عليه، إلى أن يتعافى العراق، ويتحقق التوازن في القوة لصالح تقوية المركز، على ألا تغيب في كل الأحوال، الأماني القومية للشعب الكردي الشقيق، ضمن دولة عراقية قوية ومنيعة، قادرة على التصدي للعدوان، وأخذ مكانها اللائق بين شقيقاتها الدول العربية، تعزيزا للعمل العربي المشترك، وصيانة لمستقبل الأمة.
تلك نقاط علها تكون كفيلة بإخراج العراق من عنق الزجاجة، إذا ما تم أخذها على محمل الجد. والأمل كبير أن يتحمل العرب مجتمعين مسؤوليتهم في حماية العراق، لأن في ذلك نصرة لبلد عربي شقيق، وشعب مظلوم وتأكيدا على التضامن والتلاحم بين الأشقاء.. "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم".