التفسيرات الخرافية أو الخوارقية كانت رائجة في ذلك الزمان (منتصف القرن الثامن عشر). وبما أن الحروب المذهبية كانت على أشدها بين جناحي المسيحية الرئيسين (الكاثوليك والبروتستانت)، فقد استقبل البروتستانت أنباء الزلزال بالبشر والتهليل والحمد، مفسرين إياه بأنه عقاب من الله للكاثوليك على هرطقاتهم وبعدهم عن مسيحية يسوع. لكن لم تكد تمضي ثمانية عشر يوماً على الزلزال، حتى ارتجت الأرض بمدينة بوسطن بأمريكا، حيث يعيش المسيحيون البروتستانت، بزلزال عنيف دمر ما لا يقل عن 15 ألف بيت في المدينة، وقتل وشرد وجرح الآلاف من الناس. ومن ثم، لم تكن حال البروتستانت بأحسن من حال الكاثوليك، فكلاهما تلظى بنار زلزال مرعب، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون!
من ناحية أخرى، كانت المأساة موضع تفسير متباين بين فيلسوفين من فلاسفة التنوير، تبعاً لنهجهما الفلسفي المختلف، هما: (فولتير، ت 1778)، و(جان جاك روسو ت 1778).
فولتير فسر الحدث انطلاقاً من فلسفته الوضعية والمتشائمة حيال العالم الذي نعيش فيه، أما الثاني ففسرها من وحي فلسفته التي تنعى على الإنسان تخليه عن الطبيعة التي كان يعيش فيها بسلام، قبل أن تأخذه الحضارة والمدنية بعيداً عنها. لكن الشيء المهم أن تفسيراتهما جاءت على نحو لا يلقي باللائمة على الماورائيات، بمعنى أنه تفسير يقارب علاقة الحدث بالواقع المُعاش، بعيداً عن رؤيتها كعقوبات إلهية، ما برح الكاثوليك والبروتستانت حينها يتهمون بعضهم بعضاً بها، رغم أن كلتي الطائفتين تعرضتا لكارثة الزلزال.
فولتير فزع كثيراً، لا بسبب الزلزال المدمر فحسب، بل أيضاً بسبب التفسيرات الماورائية التي لجأ إليها المسيحيون باتهام بعضهم بعضاً بالهرطقات والبعد عن الدين الحق. فكتب على وقع الصدمة قصيدة بحس فلسفي بعنوان (مأساة لشبونة)، جعلها مناسبة لنقد التفسير المسيحي الخرافي للكارثة من ناحية، ولفلسفة الفيلسوف الألماني(لابينتز ت عام 1716) من ناحية أخرى؛ وهي فلسفة تقطع بأننا نعيش في أفضل العوالم الممكنة، بغض النظر عما يعتري عالمنا من كوارث. وهو نقد سيواصله فولتير في روايته الشهيرة (كانديد). وتتجلى الفكرة الأساسية لقصيدة فولتير في النظر إلى عالمنا الذي نعيش فيه على أنه ليس أفضل العوالم الممكنة، كما تصوره (لابينتز)، بل هو عالم تعيس مليء بالشرور والمآسي التي يصعب على الحس الإنساني السليم أن يقبلها أو يقبل التبريرات بشأنها.
يمكن النظر إلى تعليق فولتير على الكارثة بأنها بمثابة إعادة الاعتبار إلى ما يمكن وصفه بـ(عزاءات بلا آمال)، بوصف الأمل بأنه محض شقاء مدمر، طالما يُبقي على جذوة الحزن متقدة، بدل أن تنطفئَ وتفتح الحياة صفحة جديدة؛ وهي عزاءات نشطت واشتهرت بصفة خاصة مع الفلاسفة الرومان.
لماذا الأمل محض شقاء مدمر؟
الجواب نجده عند المغربي سعيد ناشيد، وتحديداً في كتابه المهم (الوجود والعزاء) الذي قال: «الأمل شقاء طالما يعني الانتظار؛ والانتظار عامل من عوامل التوتر والحزن، طالما يجعلنا نتعلق بما لا يتوقف علينا؛ ومن ثم نقع في أتون الإحباط. الانتظار شقاء حارق لا سيما حين يتعلق الأمر بانتظار حدوث ما لا يتوقف علينا».
أما روسو فحلل الكارثة من منظوره الذي يرى أن الإنسان غادرته السكينة والطمأنينة وابتُلي بالمصائب عندما تخلى عن العيش وفق الطبيعة، ومن ثم، عزا مأساة لشبونة إلى بناء الناس هناك عمارات متعددة الطوابق، مما ضاعف حجم الكارثة، وهذا وفق رأيه مخالف لطبيعة الإنسان الأول الذي عاش وفق ما تملي عليه الطبيعة البكر، وليس وفق طبيعة مصطنعة. وعَزْوُ روسو سبب الكارثة إلى العمارات الشاهقة يناقضه سقوط الكنائس على رؤوس المصلين رغم أنها كانت مبنية من سقف واحد.
مسيرة العلم لا تتفق مع رأي روسو، إذ كانت مأساة لشبونة حافزاً للعلماء لكي يبدعو (علم الزلازل) الذي عمل على تطوير أنماط البناء لتكون مضادة للزلازل. ومن هنا فإن تفسير فولتير قد يكون أقرب إلى الموضوعية والواقعية منه إلى تفسير روسو.
مع ذلك، فلا يزال التفسير الخرافي لأحداث الطبيعة يجد له موطئ قدم واسعاً في البناء الذهني للبشر، بخاصة فيما يسمى (العالم الثالث)، ومجتمعاتنا العربية والإسلامية في القلب منه، حيث نجد تفسيرات خوارقية عجيبة لا تربط بين الأسباب والمسببَّات، بل تربطها ــ في الغالب ــ بما ورائيات تمد بقداسة إلى بشر، أو إلى خطايا أناس نُظِرَ إليهم على أنهم في ضلال.
ولقد تصدى النبي - صلى الله عليه وسلم - لمثل هذه التفسيرات الخرافية حين كسفت الشمس يوم وفاة ابنه إبراهيم، فقال الناس حينها: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فرد عليهم صلى الله عليه وآله بقوله: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته». ولله الأمر من قبل ومن بعد.