لطالما كانت جدة مدينتي المحبوبة. ورغم أنني جربت العيش في مدن أوروبية وأميركية جميلة إلا أنني ظللت أتطلع دوماً للعودة إلى عروس البحر ولكن في كل زيارة يخيب ظني.

عروس البحر الأحمر لم تعد عروساً من وجهة نظري، بل هي أشبه بأرملة طاعنة في السن وقد غشيها مرض عضال فنسيت من تكون. المدينة التي يقصدها القاصي والداني لقضاء أجمل الأيام فيها صارت طاردة حتى لأهلها وعشاقها، بات الواحد فيهم يتردد كثيراً قبل أن يفكر بالخروج إلى شوارعها. فركوب السيارة في جدة يمكن تصنيفه في باب الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، بل إنه تأتي لحظات يشعر فيها المرء بأنه في وسط معركة لا يعرف المرء فيها من أين ستجيئه الصدمات الغادرة! والسيناريو الأسوأ هو أن تُحشر سيارة صغيرة بين ناقلتين ضخمتين لم يحدد لهما أحد وقتاً لتسيرا فيه في الطرقات المكسرة والضيقة والمكتظة أساساً بالسيارات الصغيرة التي يظن جل أصحابها أنهم في الواقع يخوضون سباق الراليات الصيفي. وإذا اجتاز المرء كل هذه العقبات دون حوادث ووصل سليماً معافى جسدياً ومرهقا نفسياً إلى الوجهة المرادة، فإنه غالباً ما يصل متأخراً بالرغم من أنه بحساب المسافات كان يفترض أن يصل وجهته بعد عشرين دقيقة على الأكثر وليس بعد ما يقارب الساعة.

حين شبهت ما يحدث في شوارعنا بالمعركة على موقع تويتر ردت إحدى المغردات بالقول بأن كل مشوار في جدة هو مشروع حادث! فرد عليها مغرد من الرياض قائلاً بأن كل مشوار في الرياض هو مشروع انتحار، وخلصت مغردة ثالثة إلى أن أي مشوار بالسيارة لدينا هو مشروع فقيد! وهؤلاء الثلاثة لم يبالغوا أبداً فيما ذكروه، فبالرغم من الفروقات بين جودة الطرق والجسور بين العاصمتين التجارية والسياسية إلا أن الوضع حين يتعلق بأمن الطرق والمركبات يكاد يكون واحداً، إلا أن متداخلة رابعة أضافت أن هذا الحال لا ينطبق على كافة مدن السعودية، فهناك مدن وادعة غير مكتظة بسكانها وسياراتها، ويبدو كلامنا غريباً عليهم وغير منطقي، وهم صادقون، وهنا مربط الفرس.

يبلغ عدد سكان المملكة العربية السعودية بحسب الإحصائيات التي تذكرها مصلحة الأرصاد العامة والمعلومات، في التعداد الذي أجري عام (2010 ) 27,136,977 نسمة، كما أظهرت النتائج، وفقاً لصحيفة الرياض (العدد 15493) بوجود أربع مدن في المملكة يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة وهي مدينة الرياض ( 5،194،230 ) ومدينة جدة ( 3،430،697 ) ومدينة مكة المكرمة ( 1،534،731) ومدينة المدينة المنورة (1،100،093)، في حين بلغ عدد المدن التي يزيد عدد سكانها عن 500 ألف نسمة أربع مدن هي الدمام و(الهفوف والمبرز) ومدينة الطائف وتبوك، أما عدد المدن التي يزيد عدد سكانها عن مئة ألف نسمة فقد بلغ 19 مدينة وهي (بريدة، خميس مشيط، الجبيل، حائل، نجران، حفر الباطن، الثقبة، أبها، السيح، ينبع، الخبر، عرعر، عنيزة، سكاكا، الحوية، جيزان، الظهران، القطيف، القريات).

ومن الإحصائيات السابقة يتضح أنه في حين تختنق أربع مدن بسكانها الذين يزيدون عن المليون نسمة، ولا سيما الرياض التي تضيق بملايينها الخمسة وجدة التي تئن من ملايينها الثلاثة، فإن عدد سكان معظم مدن المملكة الأخرى في حدود المئة ألف أو أكثر بقليل. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا هذا الاختلال الهائل في عدد السكان بين المدن والمناطق المختلفة؟ ما الذي يوجد في جدة ولا يوجد في ينبع؟ وهل الرياض أطيب هواء من أبها؟

لو استثنينا الأشخاص الذين تنحدر عائلاتهم من هذه المدن المليونية فمن الطبيعي أن يرغبوا في العيش فيها، وسألنا النازحين لها من المدن الأخرى وبالآلاف كل عام، لوجدنا أسبابهم تتراوح ما بين التعليم، والعلاج، والفرص الوظيفية، وجودة الخدمات مقارنة بمناطقهم، ووجود الدوائر الحكومية بها، وفي مرتبة ثانية توفر وسائل الترفيه. فلعقود طوال تركزت جهود التنمية على مدن بعينها دون غيرها، وربما سر بذلك أهلها آنذاك، لكنهم يدركون اليوم أن ذلك كان خطأ فادحاً سيعانون منه بشكل مباشر حينما سيقرر نصف السعوديين الانحشار كالسمك في علب السردين في مدينتين أو ثلاث رغم مساحة بلادهم الشاسعة.

الدولة شرعت في فتح الجامعات في المدن الصغيرة في محاولة لإحداث هجرة معاكسة إليها من المدن الكبرى، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً، خاصة مع عدم توفر الكثير من المقومات التي ترغب المرء في أن يترك الرياض ليعيش في المجمعة أو يغادر جدة إلى جازان.

عشت في قرية إنجليزية اسمها "هاتفيلد" أثناء دراستي للماجستير في إنجلترا، وكانت تبعد عن مدينة لندن حوالي خمس عشرة دقيقة بالقطار، ورغم أنها كانت صغيرة وتشغل جامعتنا مساحتها الأعظم، ويمكن قطعها كاملة سيراً على الأقدام، إلا أنني كنت راضية جداً عن حياتي فيها ولم أفكر يومها بالانتقال لمدينة لندن بازدحامها وأسعار مساكنها الخيالية. والسبب هو أن القرية على صغرها كانت تحتوي على كل شيء، فقد كان فيها جامعة، ومكتب بريد، ومستشفى، ومركز تجاري، وبقالة تسوق كبيرة، وبنوك، وصالات سينما، وملاعب أطفال، وحدائق، ومحطة قطار. وكان يمكنني إنجاز بعض المعاملات الأخرى للدوائر التي ليس لها تمثيل في قريتنا عن طريق البريد أو الإنترنت، وهذا هو حال معظم القرى في العالم الأول.

حالة الازدحام في المدن الكبرى باتت مشكلة حقيقية وتزداد سوءاً يوماً بعد آخر وينتج عنها سلبيات كثيرة، ولعل أهمها قضية الحوادث المرورية التي لن ينجح ساهر ولا غيره في الحد منها ما لم تعالج سريعاً. صحيح أن أحداً لا يستطيع أن يمنع مواطناً من الانتقال من مدينة لأخرى، لكننا نستطيع أن نوفر له في مدينته الصغيرة أو قريته المقومات التي تجعل من مصلحته وراحة باله أن يبقى بين أهله، بل ونستطيع ترغيب بعض أبناء المدن الكبرى أنفسهم بأن ينتقلوا لمناطق أقل كثافة سكانياً طلباً لحياة أكثر هدوءاً وراحة وأمناً.