لدينا رأي نص على عدم «إقامة المأتم لأجل الميت»، وعدم قراءة القرآن عند مكان العزاء، «لكن إذا وقع صدفةً من غير قصدٍ -إذا اجتمعوا وقرأ واحدٌ منهم- فلا بأس، أما أن يُتَّخذ لهذا نظامٌ فهذا ليس له أصلٌ في العزاء؛ لا وجود القرَّاء، ولا إيجاد المآكل والمطاعم، ولا غير ذلك. لكن أهل الميت إذا نزل بهم الضيفُ لا بأس أن يُكرموه، أو جاءتهم أطعمةٌ كثيرةٌ ودعوا إليها مَن يأكلها لا بأس.. أما كونهم اجتمعوا وجلسوا في مكانٍ يتذاكرون، أو يُعزِّي بعضُهم بعضًا، وقرأ أحدُهم بعض الآيات، هذا طيبٌ»، وهذا الرأي يتداول كثيرا عند نزول المنايا.
الرأي الآخر على النقيض، وملخصه عدم وجود مانع شرعي من تخصيص مكان للتعازي، وأنه «أمرٌ محمودٌ تعارف عليه الناس، ودَعَت إليه مقتضيات أحوالهم لأجل المواساة»، كما أنه «لا مانع شرعًا من قراءة القرآن في المآتم، وأخذ الأجرة عليها»، والشرط ألا تكون التكاليف من التركة، ومن نصيب الورثة إلا برضاهم، وألا يكون ذلك في إطار التفاخر والمباهاة، وأن يستمع الحضور وينصتوا للتلاوة، وأجرُ القارئ جائزٌ، لأن البذل على المباح مباح، وتكييف ذلك جارٍ على أنه أجرُ احتباسٍ ومقابل الانقطاع للقراءة والانشغال بها، وليس أجرًا على محض التلاوة.
تخصصيا وعلميا، ثبت جلوسه، صلى الله عليه وسلم، للعزاء. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «لَمّا جاء صلى الله عليه وسلم قتلُ ابنِ حارثة، وجعفرٍ، وابنِ رواحةَ، جلس يُعرف فيه الحزن»، وبوَّب عليه الإمام البخاري بقوله: باب: «من جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحزن»، والقصد استيعاب أعداد المعزين، وقد نص جماعة من الفقهاء على مشروعية الجلوس لتلقي العزاء، استدلالًا بالحديث. وذهبت مجموعة أخرى إلى أنه مكروه أو خلاف الأولى دون تحريم، وبشكل أدق، أكثر الحنفية قالوا إن الجلوس خلاف الأولى، وجل المالكية اعتبروه أمرا مباحا، وغالبية الشافعية والحنابلة عدوه مكروهًا، وبخصوص القرآن والأجرة، فدليل الإباحة أن نفرا من الصحابة مروا بماء، فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق، إن في الماء رجلًا لديغًا أو سليمًا، فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحَقَّ ما أخَذْتُمْ عليه أجْرًا كِتَابُ اللَّهِ».
الخلاصة.. إن الجلوس للعزاء وقراءة القُرَّاءِ أمور جَرَت عليها العادة، اعتمادًا على الاستحسان الشخصي، وانتقلت وعمت من جيلٍ لجيلٍ، على أنها كذلك. وشأن الإسلام في ما جدَّ ويجدُّ، أن الحسن يشجعه ويُقِرُّهُ، ويسمِّيه سنةً حسنة، ويجعل لمن سنَّها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، والسيِّئ يدفعه وينكره ويسمِّيه سنةً سيئةً، ويجعل على من سنَّها وزرَها ووزرَ من عمل بها إلى يوم القيامة، ومُدَّعِي أن هذا بدعةٌ سيئة مُضَيقٌ لِمَا وسَّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، على الناس مِن الاجتماع للخير وذكر الله، وجبر الخواطر والمواساة.