يلفت نظرنا باستمرار أن البعض جالس ومتربع في المجالس والاستراحات وخذلك تحليل للسياسة الدولية والأحداث العالمية! ولماذا عملوا كذا ولماذا لم يعملوا كذا؟! وأيضا بعض المحللين في بعض القنوات يصفصف له كم كلمة وجملة وشوية شعارات تدغدغ المشاعر! لكن لو سألتهم سؤال بسيط هل تعرف مدارس صنع القرار في السياسة الدولية؟ ربما لم يذكر ولا واحدة، أو لو سألته هذا القرار اتخذ برأيك بناء على أي نموذج للسياسة الخارجية؟ لوجدته لا يعرف عما تتحدث!

لذلك أردت في هذا المقال قدر الإمكان أن أعطي لمحة بسيطة مختصرة لموضوع ضخم بالغ التعقيد ومتعدد العوامل وهي كيفية اتخاذ القرارات في السياسة، والموضوع معقد ومتشابك وله قواعده ونظرياته ونماذجه وإستراتيجياته وأساليبه وفنونه وتقنياته وليس صدف أو سوالف مجالس!

في مجال العلاقات السياسية الدولية، يُعد اتخاذ القرار جانبًا حاسمًا تمت دراسته من خلال عدة نظريات ومدارس مختلفة. وهناك مدرستان أساسيتان للفكر قد شكلتا فهمنا لاتخاذ القرار في هذا السياق، وأيضا هناك حوالي أكثر من خمس نظريات أو نماذج أخرى متعارف عليها داخل هذه المدارس تقدم وجهات نظر أكثر تعقيدًا حول عمليات اتخاذ القرار ويمكن تلخيصها بالتالي:


-مدرسة الاختيار العقلاني: يفترض هذا النموذج أن صانعي القرار يتصرفون بعقلانية ويتخذون خيارات تعظم منفعتهم وأهدافهم بناءً على المعلومات المتاحة. ويستند إلى فرضية أن الأفراد أو الجماعات أو الدول يشاركون في عملية محسوبة من وزن تكاليف وفوائد الخيارات المختلفة قبل اتخاذ قرار، وأحد أمثلة هذه المدرسة نظرية أنتوني داونز الاقتصادية للديمقراطية، حيث أظهر داونز أن الأحزاب السياسية في الديمقراطيات تتبنى مواقف مركزية لأن معظم الناخبين لديهم آراء معتدلة، نقاط القوة في هذه المدرسة هي توفر إطارا واضحا ومنهجية لتحليل القرارات بناءً على حسابات التكلفة والفائدة وتقدم قوة تنبؤية من خلال الافتراض بأن الفاعلين سيتخذون خيارات تعظم مصالحهم، ولكن نقاط الضعف هي أن هذه المدرسة قد تبسط القرارات المعقدة بشكل مفرط من خلال افتراض العقلانية الكاملة والمعلومات الكاملة، وقد لا تأخذ في الاعتبار دور العواطف والتحيزات المعرفية أو العوامل الاجتماعية والثقافية في اتخاذ القرار.

-مدرسة علم النفس المعرفي: تأخذ هذه المدرسة في الاعتبار العوامل النفسية التي تؤثر على اتخاذ القرار. تعترف بأن صانعي القرار غالبًا ما يخضعون للتحيزات المعرفية والمعلومات المحدودة وغيرها من القيود النفسية التي تؤثر على خياراتهم. ويدمج هذا النهج رؤى من علم النفس لفهم كيف تلعب تصورات ومعتقدات صانعي القرار دورًا في اتخاذ القرار.

نقاط القوة في هذه المدرسة هي تعترف بقيود الإدراك البشري وتدمج العوامل النفسية في التحليل وتعكس بشكل أكثر دقة واقع عمليات اتخاذ القرار، والتي غالبًا ما تكون غير كاملة وتخضع للتحيزات، أما نقاط الضعف هي يمكن أن تكون أقل قدرة على التنبؤ لأنها تتعامل مع الطبيعة الذاتية والمتغيرة للإدراك البشري، بالإضافة إلى هاتين المدرستين، هناك خمسة نماذج ونظريات داخل هذه المدارس تقدم وجهات نظر أكثر تعقيدا حول عمليات اتخاذ القرار:

-العقلانية المحدودة/النموذج السيبراني: يقترح أن صانعي القرار يعملون ضمن حدود معرفتهم وقدراتهم على معالجة المعلومات، فهم يميلون إلى اتخاذ قرارات مرضية بدلاً من القرارات الأمثل! ومع الاعتراف بالقيود المعرفية البشرية على معالجة التفاصيل والمعلومات، فإنهم يميلون لاتخاذ قرارات مرضية إلى حد ما بدلاً من القرارات الأفضل!

والمثال على ذلك التصويت والانتخابات بناءً على الاختصارات المعرفية ويستخدم الناخبون اختصارات معرفية مثل الاستدلالات البسيطة، بسبب محدودية الوقت والمعلومات، مما يؤثر على قرارات التصويت لديهم.

ونقاط القوة في هذه النموذج يعترف بحدود معالجة المعلومات وميل صانعي القرار إلى البحث عن حلول مرضية، ويعكس القيود العملية التي يواجهها صانعو القرار في سيناريوهات العالم الحقيقي، أما الضعف فيكمن في أنه قد لا يفسر مفهوم الرضا دائمًا سبب اتخاذ بعض القرارات الفرعية بدل الأمثل، وقد يكون من الصعب تحديد المعايير التي يستخدمها صانعو القرار للحكم على ما هو (جيد بما فيه الكفاية).

-نموذج السياسة التنظيمية: يركز على كيفية تأثير الديناميكيات التنظيمية الداخلية والمصالح المتنافسة للكيانات البيروقراطية المختلفة على اتخاذ القرار، ويرى هذا النهج أن اتخاذ القرار كنتيجة لديناميكيات القوة والمفاوضات بين أصحاب المصلحة المختلفين في المنظمة أو الجهة. ومثالها التنسيق بين الإدارات المختلفة، فالقرارات التي تتضمن التنسيق بين الإدارات هي سياسية للغاية بسبب الأجندات المتعارضة بين هذه الجهات وقواعد لعبة القوة بينهم.

نقاط القوة في هذا النموذج أنه يسلط الضوء على تأثير الهياكل التنظيمية والديناميكيات الداخلية على اتخاذ القرار، ويلفت الانتباه إلى دور الصراعات على السلطة والتفاوض داخل المنظمات، لكن بالمقابل يكمن ضعفه في أنه قد يقلل من تقدير تأثير العوامل الخارجية والاعتبارات الإستراتيجية الأوسع، وقد يكون من الصعب تطبيقه عالميًا بسبب طبيعة السياسة المختلفة لكل جهة أو دولة.

-نموذج السياسة البيروقراطية: مشابه لنموذج السياسة التنظيمية إلى حد ما، وينظر إلى دور المسؤولين البيروقراطيين ومصالحهم في تشكيل قرارات السياسة الخارجية، ويركز هذا النموذج على كيف تؤثر الإدارات والوكالات المختلفة على نتائج السياسات، ومثالها تحليل جراهام أليسون لأزمة الصواريخ الكوبية يعرض المساومة بين اللاعبين الفاعلين الحكوميين ذوي التفضيلات السياسية المختلفة، وبالمناسبة المثال نفسه يمكن تطبيقه إلى حد ما في نموذج السياسة التنظيمية فبينهما تشابه كبير.

نقاط القوة في هذا النموذج أنه يؤكد على تأثير الفاعلين البيروقراطيين الفرديين ومصالحهم على نتائج السياسات، ومفيد لفهم التفاعل المعقد بين الوكالات والإدارات المختلفة. ولكن يكمن ضعفه الواضح في أنه يمكن أن يؤدي إلى رؤية مجزأة لاتخاذ القرار تغفل الإستراتيجيات المتماسكة، وقد لا يغطي بشكل كامل دور القيادة والمصالح الوطنية الشاملة.

- نظرية الآفاق: تدرس كيف ينظر صانعو القرار إلى المكاسب والخسائر، مما يشير إلى أنهم أكثر تجنبًا للمخاطر عند النظر في المكاسب المحتملة، وأكثر قبولًا للمخاطر عند مواجهة الخسائر المحتملة، وتفسر هذه النظرية اتخاذ القرار تحت الخطر، حيث يقدر الأفراد المكاسب والخسائر بشكل مختلف، مما يؤدي إلى قرارات لا تتماشى دائمًا مع توقعات الاختيار العقلاني، ومثال هذا النموذج اتخاذ القرار في السياسة الخارجية، فقد تم استخدام نظرية الآفاق لفهم اتخاذ القرار من قبل النخب في السياسة الخارجية والسياسة المحلية.

نقاط القوة في هذا النموذج أنها تقدم رؤى حول كيفية إدراك صانعي القرار للمخاطر والمكاسب، مما يوفر وجهة نظر أكثر تعقيدًا للخيارات في ظل عدم اليقين وهي في نفس الوقت تتحدى النموذج التقليدي للاختيار العقلاني من خلال النظر في التماثل بين تجنب الخسائر والجاذبية للمكاسب، ولكن في المقابل يكمن ضعف هذه النظرية في أنه قد تختلف قابلية التطبيق حسب السياق وسيناريو اتخاذ القرار المحدد، وقد تتطلب معلومات مفصلة دقيقة عن القضايا لصانعي القرار، وهذا قد يكون صعب الحصول في العديد من القضايا والأزمات.

- نظرية السياسة البوليهيستورية: تجمع بين عناصر كل من الاختيار العقلاني والنهج المعرفي، مفترضة أن صانعي القرار يستخدمون عملية من مرحلتين، حيث يقومون أولاً بإزالة الخيارات التي لا تلبي معايير سياسية معينة قبل تطبيق تحليل أكثر عقلانية على الخيارات المتبقية، وأمثلتها شهيرة مثل قرارات السياسة الخارجية لرؤساء الولايات المتحدة، وتم تطبيقها لتحليل القرارات مثل قرار عدم التدخل لأيزنهاور في ديان بيان فو وقرار كارتر لإنقاذ الرهائن في إيران.

نقاط القوة في هذه النموذج تجمع بين العناصر العقلانية والمعرفية، مع الاعتراف بدور الاعتبارات السياسية في المراحل الأولى من اتخاذ القرار وتوفر إطارًا من مرحلتين يمكن أن يفسر استبعاد بعض الخيارات بناءً على معايير سياسية. لكن لها نقاط ضعف هذه النظرية حيوية فهي معقدة بذاتها و يمكن أن يجعل تعقيد النظرية من الصعب تطبيقها و تفترض مستوى عاليا من الحساب الإستراتيجي قد لا يكون موجودًا في جميع صانعي القرار.

تساهم هذه المدارس والنماذج في فهم أعمق لطبيعة اتخاذ القرار المعقدة في العلاقات السياسية الدولية، مما يسلط الضوء على التفاعل بين الحسابات العقلانية والقيود المعرفية. طبعا هناك نماذج أخرى لا يتسع المقام لذكرها مثل نموذج السياسة بين الفروع، وأيضا نظرية اللعبة ثنائية المستويين، ولا نريد أن نبحر كثيرا في النظريات الشهيرة مثل نظرية هربرت سيمون في اتخاذ القرار فقد ذكرنا مفهومي العقلانية المحدودة والرضا، وأيضا لن نفصل في نموذج سنايدر لصنع القرار في السياسة الخارجية فهو يتحدى نموذج الاختيار العقلاني التقليدي من خلال النظر في مدى تعقيد السلوك التنظيمي وتأثير تصورات صناع القرار الفرديين وتحيزاتهم ومعتقداتهم وقواعد القرار. ويجب الأخذ في الاعتبار جدا التأثيرات المحلية والثقافية، فمن المعروف أن الضغوط السياسية المحلية والرأي العام والعوامل الثقافية يمكن أن تؤثر على خيارات السياسة الخارجية. وأيضا البيئة الدولية، ودور النظام الدولي، بما في ذلك توزيع القوة والتحالفات والمعايير العالمية، في تشكيل قرارات السياسة الخارجية.

إلى الآن ما تكلمنا على خطوات اتخاذ القرار التسعة التقليدية، ولم نتحدث عن إستراتيجيات تنفيذ القرار والخطوات بعد اتخاذ القرار.

وإلى الآن لم نتكلم عن الخطوات الموازية وهناك خطوات آنية وخطوات مستقبلية إستراتيجية في صنع القرارات في السياسة، وأيضا هناك سياسة الردع وسياسة التحكم بالمخاطر الآنية والمستقبلية! وهناك خطط بديلة في حالة أن اتخاذ القرار لم يكن فعالا ويحتاج إلى تعديل أو تغيير!

إن عملية اتخاذ القرار في السياسة الخارجية أو العلاقات الدولية تدخل فيها عوامل متعددة ومتشعبة داخلية ودولية ونفسية وثقافية وبيئية، هذا غير توفر وجودة المعلومات.

الموضوع كبير وعميق ولم نلمس إلا جزءا بسيطا من سطحه، وبالتأكيد صنع القرار في السياسة الدولية ليس صف كلمات وأمنيات ودغدغة المشاعر وشوية شعارات!