وعليه فالمثقف ــ كما أفهمه ــ انعكاس أمين لظرفه التاريخي (القُطْري). فالمثقف العربي الآن في الدول الفاشلة والممزقة يجب أن يكون (مثقف وطني) بسبب ورطته في زوال دولته. والمثقف الوطني هو من يتخذ مسافة آمنة من صراع السلطة وقت الثورة ليعطي خارطة طريق آمنة للوصول إلى (الدولة الحديثة) دون تحيز يفقده عدالته الأخلاقية مع نفسه وشعبه، أما الاصطفاف (الانتهازي) فليس من شيمة (المثقف) فالدم دم أبناء وطنه في دولته القطرية التي يحاول بالرأي المستقل الأمين أن ينقلها من طورها (الثوري الفاشل) إلى دولة مؤسسات مستقرة مزدهرة، لها احترامها بين دول العالم (هيثم مناع نموذجاً في ثلاثيته الشهيرة: لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي). بينما المثقف العربي في الدول المستقرة يجب أن يكون (مثقف دولة) بامتياز فتراه (يساريًا) في استظهار الإمكانات المستقبلية الكامنة في دولته لتصبح أكثر قوة ونفوذ بالمعايير الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويكون (يمينياً) في الحفاظ على مقدراتها وإمكانات استمرارها (محمد الرميحي نموذجًا).
بعد هذه التوطئة أعود فأوضح بأن (الصحوة) حققت (الهيمنة) على الوجدان الشعبي طيلة أربعين عامًا، وقدرة الدولة على (السيطرة) بتحرير الفضاء العام من الصحوة، يفتح الباب على مصراعيه (للمثقفين) لتحقيق واجبهم في بسط (الهيمنة) الوطنية على الوجدان الشعبي لصالح (الدولة الحديثة). ولا يكون ذلك دون توجيه (تلقائية الفرد) في واقعه اليومي، ونقلها من مفهوم (الصحوة) إلى مفهوم (المواطنة) في تفاصيل حياته اليومية، وتوعيته لمعالجة جهله بالفارق بين تلقائية (الصحوي) و تلقائية (المواطن). سأضرب مثالًا (متخيلا) يكاد يلامس الواقع لتوضيح ذلك: أبو البراء مواطن في الثلاثينات من عمره، يعيش بعقل (صحوي) ومتشبع بأدبيات الصحوة مع جهل شديد بمعنى المواطنة وأخلاقياتها رغم أنه يضع في حالته بالواتس أب ووسائل التواصل الأخرى شعار دولته الرسمي لأنه يفهم المواطنة فقط على مستوى الشعارات والملصقات، لكنه على مستوى السلوك اليومي متمسك بأخلاق الصحوة إلى آخر رمق. كان أبو البراء في طريقه مسافرًا بين منطقتين داخل دولته، وفي إحدى محطات الوقود على الطريق توقف عند مسجدها ليجمع صلاة المغرب والعشاء بحكم سفره، فوجد رجلًا ملتحيًا أربعيني العمر، سلم عليه وسأله عن حاله، فقال: أنا عربي اللسان وديني الإسلام ومسافر إلى مدينة كذا وأحفظ من القرآن عشرة أجزاء بقراءة ورش عن عاصم، فاستسلم أبو البراء لهذه السيرة العطرة واللسان العربي الفصيح وجعل هذا الأربعيني (مجهول الهوية) إمامًا له في الصلاة، وبعد انتهائها دعاه أبو البراء للركوب معه كي يوصله فهما متجهان للمدينة نفسها. وعند خروجه من المسجد جاءه مواطن مثله ومعه طفلان وسلم عليه بأدب وهدوء وأخبره أنه فلان بن فلان الفلاني ومنقطع بسبب عطل سيارته ويرغب منه المساعدة في إيصاله إلى المدينة نفسها المتجه إليها. وأثناء الحديث همس (مجهول الهوية) في أذن أبو البراء بقوله: أظن هذا الرجل من اسمه ولهجته وملامحه هو وولديه من (.........) وجاء بعبارة قاسية يقصد بذلك أنهم على مذهب يختلف عن مذهب أبو البراء الديني. فاعتذر أبو البراء بأسلوب طائفي فج من إيصال السائل وأمسك بيد (مجهول الهوية) ليأخذه بالسيارة، وأثناء الطريق عاش معه أجمل الأحاديث (الصحوية) في قضايا الأمة الإسلامية وخطر الطوائف الإسلامية الأخرى على الدين! حتى وصلا إلى أقرب نقطة تفتيش وعندها ارتطم أبو البراء بجريمته الجنائية في (نقل مجهول الهوية) ودخل على إثرها السجن مباشرة. فهل وعى أبو البراء حقيقة جهله بمعنى المواطنة وأخلاقياتها وأنها ليست مجرد صور وشعارات وطنية على وسائل التواصل، بينما واقعه اليومي ينضح (طائفية وأممية صحوية)، غافلًا عن حياة حرة كريمة تؤمن بشركائها في تراب الوطن، فيما لو عاش وفق إطار (أخلاق المواطن) داخل الدولة الحديثة. تلك الأخلاق التي تدرك أن (الواسطة) في معظم أشكالها ليست إلا جريمة رشوة سواء جاءت على شكل (شفاعة) باسم الصحوة، أو (دقة صدر) باسم القبيلة أو الطائفة، وأن (التعصب) المخل بالنظام العام تعاقب عليه الدولة الحديثة، سواء جاء باسم الصحوة أو القبيلة أو حتى نادٍ رياضي، وأن التجمعات ورفع الشعارات دون إذن الدولة الحديثة ليس سوى خروج على النظام العام تعاقب عليه الدولة سواء جاء باسم الصحوة (ونصرة قضايا الأمة) أو باسم القبيلة... وللحديث بقية.