الصورة التقطها مصور «رويترز» الفلسطيني محمد سالم، ولخصت بعضاً من قساوة الحرب، لكنها لا تختصر الألم ولوعة الفقد الذي يحمله المشهد. صورة مشحونة بالصمت مع أنها تتسلل إلى أكثر المشاهد بكائية في لحظات الحرب. لا شيء فيها يذكرنا بالبكاء ولا الغضب ولا صوت الرصاص إلا الملاءة البيضاء التي تشبه الكفن، وهي تذكرنا بطفولة تتأرجح على حد الموت في مشهدية الحرب الظالمة. واضح أن اللجنة المحكمة كانت تتوسل صورة لا تضعنا في لحظة ضعف وخوف وشعور بالذنب.. صورة تذكرنا بما يجرى، لكنها لا تتقصد التحريض تماما ضد الحرب، فكان عناق الشابة إيناس أبومعمر ابنة أخيها في انحناءات التعب، وغياب إشارات الوجه الكثيفة، سببا لتجريدنا من انفجار المشاعر والتأثر العميق بهذه الفاجعة.
لا تنسى هذه المسابقات أنها تحاول الجمع بين قدرة الصورة على التعبير والامتثال للاشتراطات الفنية للممارسة الصحفية، التي تعنون عادة بعنوان الحرفية. لذلك لا تبدو الصور المكتظة بمشاعر الألم الصارخة في قائمة الاختيارات. والحرب المستمرة في غزة كانت بمنزلة نهر متدفق من الصور التي تحترق لها الأفئدة. أهوال الحرب لا تعادلها إلا أهوال الصمت الأممي، وهذا ما كان يحرض العدسة على الذهاب أبعد في رفع الغطاء عن قسوة المشهد، ومعاقبة المتلقي بوخزات لا تتوقف في ضميره حين يشاهد الموت بلا حساب، ويرى الموتى يمضون بلا وداع. غير أن هذا السيل الغزير لا تتجلى فيه مخيلة المصور بوصفه فنانا، ولا يتحقق فيه شرط الاحترافية!
أفضل صورة للحرب تتحول في حساب المفاضلة لأجمل صورة عنها، لأن سؤال «الجميل» مستقر دائما في رؤية المحكمين لأي مسابقة.. سؤال يتماوج ولا يستقر في تعريفاته للجميل والجمال.. هل الجميل في صور الحرب هو ما يهبنا التعاطف دون التأثر؟ هل الجميل هو من يحيل الصورة إلى قصيدة تجهد في الترميز بدلا من التوصيف الفج للواقع؟
كمن يحرض على إعادة التفكير في فهمنا للصورة ووظيفتها تأتي هذه المسابقة لترشدنا إلى كيف ينبغي أن نرى الحرب، وكيف علينا أن نصورها.. تنثر على رؤوسنا اقتراحاتها للطرقات التي ينبغي أن يسلكها الضوء وهو يتوغل في ثنايا الحرب أو حتى السلام، بلا فرق، ما دام المدى منذورا لشاعرية الصورة، لكثافة الترميز والتلميح فيها، دون التورط بدروس السرد التي تصاحب الأحداث فيها.
وهكذا كان في الصورة الفائزة ثمة عناق بين الحياة والموت، عناق يختصر العلاقة بين الصورة والواقع، فالواقع المهشم حين يستحيل صورة يصبح تميمة للحظة مصلوبة على عقارب الوقت. حدث مر وفات، لكنه يعود للحياة ثانية في لحظة التذكر، قد لا يبقى بكامل تفاصيله لاحقا، وقد يستحيل رواية لا تشبه الصورة حين السرد، إلا أنها -أي الصورة- بمنزلة المنبه لهذه المسافة بين النفي والإثبات، وبين الحياة والموت، وبين القبيح والجميل كما تقترحه ذواتنا في لحظة الفرجة، ولحظة نسيان أن هذا الألم المتواري خلف الصورة هو ألم حقيقي.