علينا أن نَذكر نقطةً تُحسب للبستاني هنا، وهي أنّه مع تركيزه على سورية ككيانٍ محدَّد، فإنّه لم يَضع فاصلاً بين السوريّين والعرب، ولاسيّما في المجال الثقافيّ، على الأقلّ في بدايات كتاباته، كما يذكر حماسة الدمّ العربيّ في الوطنيّة الثامنة من (نفير سورية). ويدعو في الوطنيّة العاشرة للنشرة نفسها إلى تعليم أبناء الوطن بلغة البلاد أي العربيّة لأنّ ذلك من شأنه أن يفيد اللّغة أيضاً، ويَجعل المُتعلّمين أكثر نفعاً وغيرةً نحو بلادهم ... والذين يدّعون بأنّه لا يُمكن التمدُّن تحت اللّغة العربيّة ربّما كانوا لا يعرفون مقدار فضل هذه اللّغة، وقد فاتهم أنّ تمدُّنَها أقرب وأسهل وأفعل من تمدُّن أبناء العرب تحت لغاتٍ أجنبيّة متنوّعة. وإلّا يلزمنا الحُكم بكلّ غمٍّ وأسف بأنّه قدر على سورية أن تكون أيضاً بابل اللّغات والعادات والمشارب، كما هي بابل الأديان والأجناس والمذاهب.
لم أعثُر في جرائد بيروت لتلك الفترة على تعليقٍ على خطبة البستاني في آداب العرب، لكنّني عثرتُ على تعليقٍ سلبيّ قصير جدّاً ومُبهم للمُصلح الإسلامي الدمشقيّ طاهر الجزائري (ت:1920) في العام 1881 في صحيفة (الجوائب) التي كان يُصدرها أحمد فارس الشدياق بالعربيّة في إستانبول. كما أنّني عثرتُ على وصفٍ سلبيٍّ آخر أكثر وضوحاً وقسوةً كَتبه موظّفٌ في وزارة الحقانيّة المصريّة (أي العدليّة) وهو سمير أحمد، تحت اسم محمّد عشماوي الأزهري، نزل في بيروت وأَرسل سلسلة رسائله المعنونة: (سفير السلام في بيروت والشام) إلى جريدة (المؤيّد) القاهريّة، أي بعد وفاة البستاني بسبع سنوات لماذا الهجوم على البستاني؟
يبدو لي أنّ الاعتراضَ كان موجَّهاً من الاتّجاه الإسلامي الإصلاحي الذي كان يُمثّله الشيخ طاهر الجزائري في دمشق، وأولئك الذين كانوا يرون رأيه. والأغلب أنّ الاعتراض الرئيس كان موجَّهاً إلى كلام البستاني في (خطبة في آداب العرب)، حيث وصفَ إحراق مكتبة الإسكندريّة مُحمِّلاً المُسلمين مسؤوليّتها فقال:
(...قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي أنّ العرب في صدر الإسلام لم تعتنِ بشيءٍ من العلوم إلّا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطبّ، فإنّها كانت موجودة عند أفرادٍ منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طُرّاً إليها. ولا يخفى أنّ اشتغال العرب في تلك الأيّام بالحروب وفتْح الأقاليم والبلدان، وشدّة مَيلهم إلى الغزو والغارات وفرْط عنايتهم في توسيع دايرة حكمهم أَلهتهم عن الالتفات إلى أمرِ الآداب والعلوم. قيل إنّه لمّا فَتَحَ عمرو بن العاص مدينة الإسكندريّة سنة 640 للمسيح في خلافة عمر بن الخطّاب، وذلك بعد محاصرتها مدّة مستطيلة، تقدَّم إليه يحي الإسكندري اليعقوبي المعروف بالنحوي وقال له يوماً بعد ملازمته إيّاه وتقرُّبه إليه ... فقال له عمرو وما الذي تحتاج إليه. قال كُتب الحِكمة التي في الخزائن الملوكيّة، فقال له عمرو لا يُمكنني أن أمنَّ بها إلّا بعد استئذانِ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب. وكتب عمرو إلى عمر وعرّفه قول يحي، فورد عليه كتابُ عمر يقول فيه، وأمّا الكُتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يُوافق كتاب الله ففي كتاب الله غنىً عنه، وإن كان ما فيها يُخالف كتاب الله فلا حاجة إليه فتقدّم بإعدامها. فلمّا وصله كتاب أمير المؤمنين شرع في تفريقها على حمّامات الإسكندريّة وإحراقها في مواقدها فاستوقدت بها مدّةً طويلة. قيل وكان عدد كُتبها أربعماية ألف كتاب. قال أحد المؤرّخين عند روايته هذه القصّة فاسمع ما جرى واعجب. وإذا صحَّ أنّ هذه الخزانة المسمّاة بتحف خانة سرابيون كانت تشتمل على كتبِ علوم الهند ومصر واليونان كان إحراقها خسارة عظيمة لا يُمكن تعويضها ولا بدّ من أنّ العرب عندما استفاقوا من غفلة الجهل والغباوة بعد تلك الحادثة بقليل يكونون قد شاركوا بقيّة العالَم في حاسيّات الحزن والأسف على فقدِ هذه الخزنة المُعتبرة التي بذلَ البطليموسيّة والقياصرة أموالاً جسيمة في جمْعها. وذلك برهانٌ على صحّة ما ذكرناه من كلام القاضي المذكور من أنّ العرب في صدر الإسلام لم تعتنِ بشيءٍ من العلوم، وأنّهم لم يكونوا يَعتبرون شيئاً من الكُتب إلّا القرآن. ولكنّ نفورهم من الأمور العلميّة كان يتناقص بالتدريج بقدر امتداد ديانتهم ومُلكهم؛ ولا ريب أنّ امتلاكهم للبلدان السعيدة التي كانت مقرّاً للذوق والرونق القديم ولَّدت فيهم روحَ لطفٍ وتمدُّن. فكان تقدُّمهم في هذا الأمر سريعاً وعجيباً كما كان في مَيادين الحرب. ولمّا كان الجهل والتبربر مستولين بسطوة شديدة على كلّ قسم من البلدان الإفرنجيّة، وذلك بسبب الحروب الثايرة والمُنازعات المتمكّنة بين ملوكها ورعاياه، بحيث لم يبقَ للعلوم والآداب سوقٌ ولا محامٍ وجدت العلوم والفنون في مدارس العرب ملجأً تستظلّ فيه مرتاعةً من غدرِ تلك الأزمان وغباوة تلك الأجيال المُظلمة. ومع أنّ آداب اليونان اقتضى لها أتعابٌ متوالية مدّة ثمانماية سنة حتّى وصلتْ إلى ما وصلتْ إليه في أيّام باركليس ترى أنّ رغبة العرب ونشاطهم في اكتساب العلوم ونجاحها كانا شديدَيْن بهذا المقدار، حتّى أنّه لم يمضِ إلّا ماية سنة أو أكثر قليلاً بين أعمق توحشّهم وبربريّتهم وبين امتداد العلوم وانتشارها في مَمالكهم المتّسعة، فإنّ عمر بن الخطّاب أمر بإحراق مكتبة الإسكندريّة سنة 641 للمسيح وسنة 750 ارتقى العبّاسيّون المُحامون عن العلوم إلى تخت السلطنة. وذلك من أغرب وأعجب الحوادث التاريخيّة، حتّى أنّ أوروبا نفسها صارت مديونة لمُخالفي ديانتها وحريّتها بأثمن مثالاتها في العلوم والفنون). خطأ وتاريخ مُتَّهم
ما كَتبه البستاني من اتّهامٍ خاطىء للخليفة الثاني بإحراق مكتبة الإسكندريّة (الأمر الذي أُزيل من الطبعات اللّاحقة للمُحاضرة أو الخطبة لأنّه ثبتَ أنّ الرومان كانوا قد دمَّروا المكتبة خلال صراعاتهم الداخليّة قبل الفتح العربي بكثير( وتبخيس تاريخ صدر الإسلام وتاريخ الأمويّين لمصلحة العبّاسيّين الذين كانت حضارتهم أقلّ عروبة من حضارة الأمويّين قد أدّى إلى نقده من قِبل عددٍ من الدّارسين، إلّا أنّهم في غالبيّتهم، يعتقدون بالمُنطلقاتِ العلمانيّة للبستاني. فقد وصفه ألبرت حوراني بأنّه كان يُصدِر أعمالَه كمسيحي للمسيحيّين بغرض دفعهم في الطريق العلماني، لكنّه من جهة ثانية استفاض في الحديث عن الخليفة الأوّل أبو بكر الصدّيق، ما يعني أنّ المؤلِّف لم يكُن ذا موقفٍ حاسم (ونحن نوافق حوراني في إشارته الأولى ونخالفه في الثانية، إذ يذكر البستاني في الوطنيّة الرّابعة من (نفير سورية) (فضل الديانة المسيحيّة على غيرها من الأديان). أمّا مسألة ذكره لأبي بكر الصدّيق، فلا أهميّة له، لأنّه يذكره كشخصيّة من الشخصيّات التاريخيّة في (دائرة المعارف)،ج.2. أمّا عبد اللّطيف الطيباوي فيركِّز على (نفير سورية) مشيراً إلى أنّ تضمين البستاني لمصادر إسلاميّة مثل الآيات القرآنيّة في تلك النشرة كان للتأكيد على علمانيّته (فشلت قراءتي لنشرة نفير سورية في العثور على هكذا دليل) لكنّه كسب شيئاً من الاستقلاليّة تجاه المبشّرين الأميركيّين كما يقول طبيباوي. ومع أنّنا لا نعرف بالتحديد سبباً لتلك النقلة، فإنّنا نستطيع أن نخمِّن أنّ ذلك كان راجعاً لكون المُبشّرين بدأوا بتغيير لغة التعليم من العربيّة إلى الإنكليزيّة. لكنّ رنا عيسى في كتابها الجديد عن الترجمة الحديثة للكتاب المقدَّس تفصل بوضوح بين شخصيّة البستاني الدينيّة وتلك العلمانيّة. أمّا ستيفن شيحي في كتابه «أُسس الهويّة العربيّة الحديثة»، فيربط علمانيّة البستاني بوطنيّته، ويعتبرهما صنوَيْن. لكنّ يوسف شويري يقدِّم لنا صورة نقديّة متكاملة، وأكثر وضوحاً عندما قرأ «خطبة في آداب العرب» كمؤرِّخ، مُعتقداً أنّ النزوع العلماني للبستاني جَعله يَطمس الهويّة الإسلاميّة لأحداث تلك الفترة، وأهمّها الدور المركزي للنبي محمّد (صلعم) وللخلفاء الراشدين. ولهذا السبب الأخير بالذّات اعتبرَ الإصلاحيّون الإسلاميّون أنّ البستاني لم يكُن مُنصفاً في القفز فوق التاريخ العربي الإسلامي.
يقول شويري في كتابٍ أصدره بالإنكليزيّة في العام 1989 بعنوان «التاريخ العربي والدولة- الأمّة: دراسة في الـتأريخ العربي الحديث 1820-1980» إنّه عندما نقرأ نصّ خطبته القصيرة نكتشف شيئاً فشيئاً أنّ البستاني كان يُحاول علْمنة الماضي العربي، بحيث إنّ البُعد الديني يخفت إلى درجة الأفول. بالنسبة إليه، كان العرب جهلة وبدائيّين لا يعرفون سوى الشعر وكان مُجتمعهم ينقسم إلى بدو رحّل وحضر يعملون في الزراعة والتجارة ولا يساعدنا ماضيهم على إلقاء الضوء على أوضاعهم، بسبب توغُّل تاريخهم في القِدم، وعدم اهتمامهم بكتابة التاريخ.
يضيف شويري أنّ البستاني كان يحدِّد هويّة شخصيّته الوطنيّة من خلال إهمال أهمّ حَدَثَيْن توأمَيْن في التاريخ العربي: حياة النبي محمّد [صلعم] وظهور الإسلام ... والحقيقة أنّه يَستخدم التاريخ ما قبل الإسلامي بتوسُّعٍ يُظهر قوّة رأيه.... من الواضح أنّه اختارَ القفزَ فوق الفترة التاريخيّة العربيّة المركزيّة ليضيء على فترةٍ أخرى. وهو بذلك يَحرم الرسالة الدينيّة من دَورها في إيقاظ إمكانيّات العرب الفكريّة، وهي الإمكانيّات نفسها التي تحدَّث عنها بتفاخُرٍ في مكانٍ آخر.
ويأخذ شويري على البستاني أنّه قَبِلَ بسرعة وحماسة قصّة إحراق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندريّة بناءً على أوامر الخليفة الراشدي عُمر بن الخطّاب، ويَعتبر أنّ ما قام به العرب من إنجازاتٍ لم تتمّ إلّا بعد أن تبنّوا العلوم اليونانيّة، وتَرجموا الكُتب التي حصلوا عليها من القسطنطينيّة، بخاصّة خلال عهد المأمون في بغداد. لكنّ العلوم والآداب العربيّة لم تَبرز إلّا في إسبانيا، وهو يذكر المُدن الإسبانيّة التي ازدهرت بسبب هذه الثقافة، ويفعل ذلك بإضافة الأسماء اللّاتينيّة للأسماء العربيّة، ما قد يعني- بحسب شويري- أنّ البستاني كان ينقل معلوماته من مصادر غربيّة ويُهمِل المصادر العربيّة. والملاحظة الأخيرة لشويري تتعلّق بكون البستاني لم يَذكر المُسلمين خلال كلّ كتاباته لا كمُجتمعٍ ديني، ولا ككيانٍ سياسي.
نخلص إلى أنّ هذا الاتّجاه العلماني اصطدمَ بالاتّجاه الإصلاحي الإسلامي في الفترة الحديثة المبكّرة، وأنّ هذا الاصطدام لا زال قائماً، بمتفرّعاته المتعدّدة. وربّما لا مناصّ من خَوض تجربةٍ علمانيّة رصينة لا تخفي التاريخ الواقعي للأحداث الدّينيّة، إذ إنّنا لم نُعطِ هذه العلاقة بين الطرفَيْن حقَّها الموضوعي الكافي حتّى الآن إلّا ربّما في بعض المؤلّفات مثل مؤلّفات أحمد أمين وكتاب طه حسين «الشيخان»، أي أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب.
*مؤرِّخ وأستاذ جامعي من لبنان.
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية