الصناعة الدفاعية الوطنية أحد ركائز الأمن الوطني لأي بلد، والأحداث والتغيرات السياسية والعسكرية والأزمات في العالم أثبت أهميتها للاستقرار وللدفاع عن مقدرات الشعوب.

تحدثنا سابقًا وفي عدة مقالات عن تفاصيل ووضع الصناعة الدفاعية السعودية في الماضي والحاضر لكن من باب الاختصار لمن لم يكن على اطلاع سابق، كان وضع الصناعة الدفاعية يغطي حوالي 2% من الاحتياج بينما السعودية تعتبر واحدة من أكبر 5 دول في العالم في المشتريات الدفاعية والميزانية العسكرية! وكان كثير من الموردين تجار شنطة وكان هناك فساد، هذا غير الاستغلال من الموردين الأجانب، إلى أن أتت الرؤية الميمونة والشجاعة بقيادة سمو ولي العهد وأعاد الأمور لمسارها الصحيح ووضع هدف طموح أن تصل الصناعة الدفاعية الوطنية إلى هدف توطين 50% من تغطية الاحتياجات العسكرية! وأنشئت هيئات كثيرة للمساعدة والمساندة للوصول إلى هذا الهدف، مثل الهيئة العامة للصناعات العسكرية (غامي). وأيضًا أنشئت (سامي) شركة حكومية للصناعات العسكرية وأعطيت كل الدعم لتكون الشركة الأساسية التي تقود القطاع وهدفها المستقبلي أن تكون من أكبر 25 شركة دفاعية على مستوى العالم، وأيضًا أنشئت الهيئة العامة للتطوير الدفاعي جاد لدعم البحث والتطوير العسكري.

تحسن وضع الصناعة العسكرية في المملكة بشكل كبير بعد الرؤية (وين كنا و ين صرنا) وتضاعفت نسب التوطين في الصناعات الدفاعية. طبعًا هذا التحسن وهدف 50% توطين دفاعي سعودي لم يعجب شركات السلاح العالمية خصوصًا الغربية ولا حتى بعض دولهم، خصوصًا أنهم كان كثيرًا ما يحاولون ابتزاز المملكة أثناء الأزمات من خلال تعطيل للتوريدات ورفع الأسعار بحجج سخيفة متعددة من أسطوانات معادة مشروخة وأحزاب ومنظمات خضر وزرق إلخ.. لكن لزموا الصمت من باب هدف 50% مجرد أمنيات وأن الصناعة العسكرية السعودية مجرد نزوة لفترة وبعدها ستعود الأمور كما كانت سابقًا، ولكن تفاجوا أن الرؤية لا تراجع فيها لأنها مبنية على عزم وحزم وشغف، وبدأت كثير من الشركات الغربية تدرك أن الموضوع جدي خصوصًا أن العديد من العقود ذهبت للشركات الآسيوية والشرق أوسطية لأنهم أكثر مرونة في مشاركة التكنولوجيا والتوطين نسبيًا (الآسيويين ليسوا كاملين ولديهم صعوبات لكن أفضل من الغربيين نسبيًا!).


الآن لنرجع لموضوع هذا المقال وهو هل نحتاج تحديثًا إضافيًا عاجلًا على عملية إعادة الهيكلة الدفاعية التي حدثت؟!

جاءت الحروب الحديثة الحالية وغيرت مفاهيم كثيرة كانت راسخة في الحروب والتخطيط الاستراتيجي، بل غيرت أساسيات في المدارس العسكرية المتعارف عليها وحرب (أوكرانيا-روسيا) و حرب (أرمينيا وأذربيجان) وحتى الأزمات في البحر الأحمر وباب المندب كان لها أثر كبير في التغيير، ولكن الحرب الروسية الأوكرانية تحديدًا كانت مثالًا مثير للاهتمام من أغلب الخبراء العسكريين والاستراتيجيين الدفاعيين في العالم لما شهدته من تغيير في التكتيكات العسكرية. فقد كانت المدارس التقليدية تضع تصنيفا مهما ومنتشرًا في العالم ككل ويدرس في الكليات والمعاهد العسكرية، وهو (الحرب التقليدية والحرب غير التقليدية). الحرب التقليدية كانت عادة بين جيوش نظامية لها أدواتها وأساليبها وتكتيكاتها، والحرب غير التقليدية عادة تكون من خلال جماعات غير نظامية أو أحزاب أو منظمات وتشبه بعض الشي حرب العصابات. ولكن الآن هذا التصنيف تغير والتفريق بينهما اختلط، فأصبحت الحروب الحديثة خليطًا بين الحروب التقليدية وغير التقليدية. حتى الأدوات تغيرت كثيرًا.

كمثال: كانت الدول تفاخر بأعداد المعدات التقليدية الدبابات والمدرعات، الآن بدأنا نرى (درونات) تكلف بضع مئات من الدولارات قد تدمر مدرعة أو دبابة قيمتها ملايين. هناك درونات ببضع آلاف من الدولارات دمرت منظومات حديثة تكلف ملايين. الآن لم يعد السؤال العسكري كم دبابة تملك؟ ولكن (كم دبابة أو مدرعة لديها جهاز تشويش وحماية نشطة أو سلبية من الدرونات، ومن صواريخ الدروع تملك؟). لم يعد الدفاع الجوي يغطي جميع الآليات، بل أصبحت الحاجة أيضًا إلى الدفاع الذاتي للمعدات نفسها، الآن الحرب الأوكرانية الروسية تستهلك شهريًا آلاف الدرونات، هذا مثال واحد بسيط من مئات الأمثلة، والدروس المستفادة من الحروب الحديثة، أن دروس الحرب الروسية الأوكرانية التي نتابع تفاصيلها اليومية تحتاج مجلدات للكتابة، وليس مقالًا، لكن ضربنا مثالًا واحدًا.

هذا التغييرات في الحروب الحديثة حاليًا تفرض على دول العالم أن تغير خططها واستراتيجيتها العسكرية بشكل فوري، لدرجة أن إحدى الدول الكبرى الآن تفكر بتقليل سلاح معين، وربما إحالة أكثره للتقاعد، وهذا السلاح كان إلى وقت قريب أحد أعمدة القوات التقليدية!

بل بعض الأسلحة وصلت مرحلة (الحصان الميت) مهما حاولت تعدلها أو تغيرها لم تعد تناسب العصر الحالي!

التكاليف دخلت على الخط بقوة، لماذا تخسر على سلاح تقليدي ملايين، بينما يمكن تدميره بسلاح صغير يكلف فقط بضعة آلاف، إذن هذا استنزاف كبير للموارد!

الجميل جدًا في رؤية 2030 أنها رؤية مرنة وديناميكية تتلاءم وتتكيف مع التغييرات والظروف وليست رؤية جامدة، لذلك التغيير مطلوب لمواجهة المستجدات فالرؤية تملك الحيوية والقدرة على التأقلم إذ أن الهيكلية مفروض تتبع أيضًا مرونة الرؤية.

لقد سعدت بخبر إنشاء اللجنة الوطنية للصناعات العسكرية، لأننا أعتقد أن القطاع الخاص ركيزة أساسية في تطور صناعة أي بلد والأمثلة واضحة للجميع، بل هو من يقود التقدم الدفاعي والبحثي في دول العالم الكبرى، واللجنة ستكون أمام مسؤوليات جسام صراحة! منها على سبيل المثال وليس الحصر الإرشاد والتوجيه لرجال الأعمال الجدد في المجال، للأسف بعض رجال الأعمال في الفترة السابقة أعتقد أن ثورة الصناعة الدفاعية مثل العقار خصوصًا أن الميزانية الدفاعية الحكومية كبيرة للقطاع، وللأسف أراد البعض ركوب الموجة وأعتقد أن كل ما يحتاجه هو شوية رأس مال وكم خبير ضباط متقاعدين من بعض الدول وشوية مذكرات تفاهم، وللأسف هؤلاء (الخبراء) دخلوهم بجدار!، والأمثلة معروفة، إن الصناعة الدفاعية ليست بهذه البساطة، وليست عقارًا مثلًا ستدخل اليوم والأرباح والملايين بعد سنة! (إلا إذا أراد أن يكون تاجر شنطة!) لكن القطاع يحتاج فهم ورؤية واستراتيجية وصبر وسنوات من العمل الجاد.

أيضًا أرجو أن تسعى اللجنة الوطنية الجديدة إلى إرشاد تجار القطاع إلى الشراكات الفعالة وليست الصورية، وأيضًا تحذيرهم من فخ (الربطة) كما اسميه، أو الحبال الطويلة، وهذا الفخ بدأت تنصبه بعض الشركات الغربية للشركات السعودية حتى لا تذهب إلى شركات آسيوية أو شرقية أوسطية للتعاون، تقوم هذه الشركات الغربية بعمل اتفاق مع الشريك السعودي وأن موضوع التصنيع يحتاج سنوات وإلخ.. والموضوع في الواقع لا يحتاج إلى هذه المدة الطويلة، لكن تريد أن تربطه معها لسنوات حتى لا يذهب إلى غيرها ويصبح معلقًا بالمنتصف وفي الوقت نفسه يمكن بعد فترة أن يمل بعد أن صرف مبالغ كبيرة ويرضى بالتنازلات ويصبح التصنيع ونقل التكنولوجيا شيئًا ثانويًا له ويبقى معتمدًا على الشركة الغربية! لذلك ربما من الأفضل لرجال الأعمال الجديدين في المجال إرشادهم للتعاون مع الشركات الآسيوية أو الأوسطية أو اللاتينية الجنوب أفريقية والشرقية في البداية لأنهم أقل بخلًا من الشركات الغربية في نقل التقنية والتكنولوجيا نسبيًا.

أيضًا الملاحظ أن بعض الشركات الغربية وبعض شركات الاستشارات ترسل أسوأ موظفيها للخليج! قد تجد المستشار معلوماته سيئة وأداؤه أسوأ واستشاراته غير دقيقة أو قديمة، وربما أهم ما يميزه أنه من أصول عربية (وبيحكي عربي!). في العديد من المواقف أسأل بعض الشركات الغربية سؤالًا محددًا في المعارض الدفاعية الدولية الخارجية وتكون الإجابة بشكل معين ومفصل ودقيق. وعندما أسأل السؤال نفسه الشركة نفسها في المعارض الخليجية أجد فرقًا شاسعًا في الإجابات! فأما أن البعض يرسل أسوأ من لديه للخليج أو أنهم (يسلكون لنا) أو أنه يعطي إجابة ترضي السائل دون دقة أو احترافية، لدرجة أنه في بعض الأحيان قلنا لهم: لماذا الإجابة عند لبس البدلة في الخارج تختلف عند لبس الثوب في الداخل!

وبناء على ما سبق أتمنى واقترح تشكيل لجنة دائمة وأيضًا ورشات عمل أو تجمع عصف ذهني (سمها ما شئت)، مكونة من غامي وجاد واللجنة الوطنية للصناعات العسكرية وسامي والإخوان في وزارة الدفاع والحرس الوطني، تنظر في التحديثات والدروس التي تستنبط حاليًا من الحروب الحديثة الحالية ودروس حرب أوكرانيا وروسيا وغيرها وتضع خارطة طريق لتحديثات الهيكلية الدفاعية وتغير في الصناعة الدفاعية والمتطلبات بناء عليه. ليعذرني الإخوان ولكن ربما تاجر أو رجل أعمال أو حتى عسكري متعود على منظومة معينة لوقت طويل ويبحث فقط التحديثات عليها، بينما التكتيكات الحديثة في الحروب الحالية قللت الحاجة لها. فلا يجب أن نقف بوجه التغيير ويجب توسيع مجال الرؤية حتى لو أن هذه المنظومة متعودين عليها ونعتمد عليها لسنوات، بقاء الحال من المحال! يجب أن تكون هناك مرونة. كمثال تاريخي عندما أتت البندقية كثير من الجنود والفرسان كان يرفض أن يتخلى عن سيفه الذي تعود عليه منذ الصغر ولازمة لسنوات، وحاول أن يغير في تكتيكات المبارزة، لكن في نهاية المطاف كان السيف (حصان ميت) مهما غيرت فيه فإنه لن ينافس البندقية أو (البندق) باللهجة العامية!

وأيضًا ننبه لنقطه مهمة ولا تأخذ كلام الاستشاري الغربي كأنه شيء مقدس، بدون مبالغة رأينا بعض المستشارين الغربيين لا يعرف حتى الأبجديات ويخطئ أخطاء لا يفعلها حتى المتدربين في الصناعة الدفاعية، هل هو جهل أو سوء مؤهلات أو لؤم، أو موصى أو لأغراض أخرى لا نعلم!

أتمنى أن ترى هذه اللجنة التنسيقية النور قريبًا وأن يكون هناك تعاون بين القطاعات فيها وأن تقود السفينة الرئيسة (فلاغ شيب) القطاع الصناعي العسكري السعودي في الاتجاه المستقبلي الصحيح والباهر كما نتمنى جميعًا.