حينما ابتُلي العالَم بمَوجةِ التضخُّمِ في العام 2021 بُعيد أزمة كوفيد، سادَ اعتقادٌ لدى مُحافظي البنوك المركزيّة الأساسيّة في العالَم، وعلى رأسهم محافظ الاحتياطيّ الفيدراليّ الأميركيّ جيروم باول، وعند كثيرٍ من الاقتصاديّين المتأثّرين بتأويلٍ معيّن للنظريّة الاقتصاديّة الكينزيّة، أنّ التضخُّمَ سيكون مؤقّتاً، وأنّ الأسعار ستَرجع إلى سابق عهدها بمجرّد انتفاء الأسباب التي أدَّت إلى ارتفاعها، والتي جرى حَصْرُها في الاضْطرابات التي عرفتها سلاسل التوريد العالَميّة نتيجةً للإنسدادات التي شهدتها أهمّ الاقتصادات المُنتِجة والمُصدِّرة في العالَم (وعلى رأسها الصين) بسبب جائحة كوفيد، ثمّ بسبب الغزو الروسيّ لأوكرانيا والعواقب التي ترتّبت عنه على مستوى تزويد الأسواق العالميّة بالسلع الأساسيّة التي يُصدّرها هذان البلدان إلى الخارج.

لقد تجاهلوا، أو بالأحرى فضّلوا أن يتجاهلوا، الأثرَ الذي كان مُتوقّعاً أن يَنتجَ عن كمّ النقود التي تمّ ضخُّها في الاقتصاد العالمي عقب الجائحة من أجل التخفيف من حدّة الانكماش المترتّب عن إغلاق الاقتصاد، والسرعة الكبيرة التي تمّ بها هذا الضخّ. لقد كان الأمرُ أشبه باستهلاكِ جرعاتٍ زائدة من المنشّطات. تبنّت بنوكٌ مركزيّة عدّة عبر العالَم عقب الجائحة برامج كبيرة للتيسير النقدي من أجل تمويل الإنفاق الحكومي عبر شراء السندات الحكوميّة، وقامت بذلك بإغراق اقتصاداتها الوطنيّة بآلاف المليارات من عُملاتها. لكنْ في حالة الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي اللذَيْن يملكان عملاتٍ يتمُّ تداوُلُها عالَميّاً من أجل تسوية المُعاملات التجاريّة الدوليّة، فإنّ الاقتصادَ العالمي هو الذي تمَّ إغراقُه بآلاف المليارات من الدولارات واليوروهات. لقد قامَ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لوحده بضخِّ ما يزيد على أربعة آلاف مليار دولار في الاقتصاد بين آذار/ مارس 2020 وآذار/ مارس 2022، منها ثلاثة آلاف مليار دولار تمّ ضخّها في الفترة القصيرة جدّاً بين شهرَيْ آذار/ مارس وحزيران/ يونيو 2020. وبذلك، وصلَ إجمالي الأصول التي بحوزة البنك المركزي الأميركي إلى ما يقرب من تسعة آلاف مليار دولار في أيّار/ مايو 2022.

إلى جانب ذلك، أَقدمت البنوكُ المركزيّة على خَفْضِ أسعار الفائدة إلى مستوياتٍ غير مسبوقة في التاريخ، بحيث أَصبحت أسعارُ الفائدة الاسميّة سالِبة في كثيرٍ من الاقتصادات المُتقدّمة (الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي والمَملكة المتّحدة واليابان...). وقد أفضى هذا إلى مَوجةٍ هائلة من الاقتراض من الأُسر والشركات على حدّ سواء أدّت إلى ارتفاعاتٍ صاروخيّة في أسعار الأصول الماليّة (الأسهم) وأسعار المنازل، إذ عرفَ الكثير من البلدان عبر العالَم فقّاعات عقاريّة تُنذر بانفجارِ أزمةٍ تُشبه الأزمةَ العقاريّة التي عرفتها الولاياتُ المتّحدة خلال صيف العام 2007. ولم يكُن انتقالُ هذه الفقّاعة إلى سوق السلع الأساسيّة إلّا مسألة وقت، حيث باتت كلُّ هذه السلع اليوم تُتداوَل في البورصات العالَميّة من خلال ما يُسمّى بالعقود الآجلة (مشتقّات ماليّة)، وتَخضع للمُضاربات مثلها مثل باقي الأصول؛ فانتقلَ بذلك ارتفاعُ الأسعار من الأسواق الماليّة إلى أسواق السلع الأساسيّة (الاقتصاد الحقيقي) ليَخلق بذلك تضخُّماً بالمعنى المُتعارَف عليه في عِلم الاقتصاد، وهو ارتفاع المستوى العامّ للأسعار الذي يُقاس من خلال مؤشِّر أسعار المُستهلِك الذي يُحسب انطلاقاً من سلّة السلع التي تُمثِّل استهلاكَ الأسر. ولو كانت أسعار المنازل جزءاً من هذا المؤشّر، لكنّا تحدّثنا عن التضخُّم قَبل سنواتٍ عدّة من الآن.


مُهمَّة مُستحيلة في أميركا

بعدما تيقَّنَ مُحافظو البنوك المركزيّة في الاقتصادات المتقدّمة من أنّ التضخُّم ليس مؤقّتاً، وأنّ المشكلة أعمق من مسألة سلاسل التوريد (التي تجاوَزت مشكلاتها سريعاً وأعادت تنظيمَ نفسها بمجرّد عودة الاقتصاد الصيني من الإغلاق) أو الحرب الروسيّة في أوكرانيا (حيث عادت السلع الروسيّة والأوكرانيّة تزوِّد الأسواقَ العالَميّة)، أَوقفتِ المصارفُ المركزيّة برامِجَها للتيسير النقدي وأَقدمت على سلسلةٍ من رفْع أسعار الفائدة التي وصلتْ في الولايات المتّحدة إلى 5.5 % حاليّاً بعدما كانت أقلَّ من الصفر.

لقد قرَّر الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ألّا يُعوِّض السندات الحكوميّة التي تَصل إلى آجالِ استحقاقها بشراء سنداتٍ جديدة من أجل خفْضِ إجمالي الأصول التي بحوزته، ونَجح إلى الآن في خفْضِ ميزانيّته إلى حوالى سبعة آلاف وستمئة مليار دولار. لكنْ ولأنّ جزءاً كبيراً من السندات (سواء الحكوميّة أم سندات الرهون العقاريّة) التي يحوزها الاحتياطي لن يتمّ استحقاقها إلّا بعد خمس إلى عشر سنوات من الآن، فإنّ الوتيرة التي سيستمرّ بها البنكُ المركزي في خفْض ميزانيّته ستكون بطيئة للغاية. وبالتالي، فإنّ الجزءَ الأكبر من النقود التي تمَّ ضخُّها في الاقتصاد بعد جائحة كوفيد ستبقى معنا ولن يتمكّن الاحتياطي الفيدرالي من امتصاصها وخفْض المعروض النقدي إلى المستويات التي كانت سائدة قبل الجائحة. لا يبقى إذن إلّا التعويل على أسعار الفائدة المُرتفعة من أجل التأثير في المعروض النقدي من خلال كبْحِ جماح الاقتراض؛ لكن يبدو أنّها عاجزة عن إنتاج هذا الأثر إلى الآن، فمؤشِّر الكتلة النقديّة M2 لا يزال مُرتفعاً بشكلٍ كبير، وقد تجاوَزَ عشرين ألف مليار دولار في آخرِ إحصاءٍ يَرجع إلى شهر كانون الثاني/ يناير 2024.

ما من شكٍّ في أنّ التضخُّمَ على أساسٍ سنويّ في الولايات المتّحدة قد انخفضَ بشكلٍ كبير بفضل كلّ الإجراءات التي تمّ اتّخاذها إلى الآن، وقد تراجَعَ إلى نسبة 3.1% في كانون الثاني/ يناير 2024 بعدما كان قد وصلَ إلى نسبة 9.1% خلال شهر حزيران/ يونيو من العام 2022. لكنّ التضخُّم الأساسي (الذي يَستثني الطّاقةَ والغذاء المعروفَيْن بتقلّباتهما السعريّة) قد بقي عند مستوى 3.9% في كانون الثاني/ يناير 2024 مُظهراً بعضاً من الصمود. وهذا الذي دفعَ البنك المركزي الأميركي إلى مزيدٍ من الحَذَرِ قَبل الإقدام على خفْضِ أسعار الفائدة، وأبدى بعض أعضائه تخوُّفاً من الإقدام على خطوة الخفْض بشكلٍ مبكّر قَبل التأكُّد من أنّ التضخُّم الأساسي يتّجه بشكلٍ مُستدام وموثوق إلى ما دون عتبة 2% التي تُعَدّ هدفاً تاريخيّاً للاحتياطي الفيدرالي وبنوك مركزيّة كثيرة أخرى تَسير على خطاه (المركزي الأوروبي أنموذجاً).

ثمّة عددٌ من الاعتبارات التي قد تَجعل إرجاع التضخُّم الأساسي إلى ما دون نسبة 2% مهمّة مستحيلة في الولايات المتّحدة كما في غيرها من البلدان، أقلّه في الأمد المتوسّط. وهذا الذي دَفَعَ ببعض الاقتصاديّين في كلٍّ من الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي للدعوة إلى رفْع نسبة التضخُّم المُستهدَفة من 2 % حاليّاً إلى مستوى 4 % من أجل تخفيف السياسة النقديّة المتشدّدة التي تنتهجها البنوكُ المركزيّة والحيلولة دون القذْف بالاقتصادات إلى الانكماش.

الاعتبار الأساسي في اعتقادي يتمثّل في عجْز البنوك المركزيّة في الوقت الرّاهن عن التأثير بشكلٍ كبير في حَجْم المعروض النقدي. ويَرجع ذلك من جهة إلى الوتيرة البطيئة التي تُصفّي بها البنوكُ المركزيّة حيازاتها من السندات الحكوميّة بالنّظر إلى آجالِ استحقاقها. ومن جهة أخرى إلى عدم الرغبة أو الاستعداد لرفْع أسعار الفائدة إلى مستوياتٍ أكبر من المستويات الحاليّة بسبب تخوّفها من جرّ النشاط الاقتصادي نحو الانكماش، وأيضاً لسببٍ آخر يتعلّق بالمستويات المُرتفعة وغير المسبوقة لمديونيّة الدول (تجاوَزت نسبة 100 % من النّاتج الإجمالي المحلّي في بعضها) والشركات، ومن شأن أيّ ارتفاعٍ آخر لأسعار الفائدة أن يؤدّي إلى وصول خدمة الدّين إلى مستوياتٍ تَعجز بسببه الحكوماتُ والشركاتُ عن الوفاء بالتزاماتها الماليّة، ما سيَعصف بالاقتصادات ويُدخلها في أزمةِ دَيْنٍ ستتحوَّل إلى أزمةٍ ماليّة تنتقل سريعاً إلى كامل الاقتصاد الحقيقي.

ثمّ هناك اعتبارات أخرى يشير إليها بعض الاقتصاديّين، ويهمّني في هذا السياق أن أشير إلى اعتبارَيْن اثنَيْن فقط، لأنّ المجال لا يتّسع للخَوض في كلّ الاعتبارات والأسباب التي من شأنها أن تحدّ من الأثر الانكماشي للسياسات النقديّة المتشدّدة، وأن تؤجِّج على العكس من ذلك من التضخُّم. وأولى هذه الاعتبارات يتعلّق بديناميّة الرجوع عن العَوْلَمة التي تبدو مَعالِمُها أكثر وضوحاً الآن في كلّ أرجاء العالَم، والتي تتمثّل في نهْج الكثير من البلدان المتقدّمة والنامية على حدّ سواء لسياساتٍ تجاريّة حمائيّة انعكست مؤخّراً على الرفع من الرسوم الجمركيّة على السلع الوافِدة من الخارج. ومن شأن هذا أن يَرفع تكلفة السلع الجاهزة المُستورَدة على المُستهلِكين، كما من شأنه أيضاً أن يَرفع أسعار السلع المصنَّعة محليّاً التي تدخلُ في إنتاجها سلع وسيطة أو موادّ أوّليّة يتمّ استيرادها من الخارج.

أمّا الاعتبار الثاني فيتعلّق بالتحوُّل الطّاقي الذي ينتظر العالَم من أجل الحدّ من الانبعاثات الكربونيّة ومُواجهة التغيُّرات المناخيّة التي أصبحت تُهدِّد الأمنَ المناخي والاجتماعي في العالَم، حيث ستقود الأزمة المناخيّة التي نشهدها إلى زيادةِ أعداد اللّاجئين المناخيّين في العالَم بسبب الجفاف وارتفاع منسوب مياه البحر بحيث ستغرق بعض الجُزر والمُدن، هذا فضلاً عن كلّ المشكلات البيئيّة الأخرى التي نقرأ عنها باستمرار في الصحف أو يتداولها الإعلام والفضائيّات.

يقتضي التحوُّلُ الطّاقي إلى الطّاقات النظيفة أو المتجدّدة القيامَ باستثماراتٍ كبرى من أجل إنتاج الطّاقة بفضل المصادر المتجدّدة مثل طاقة الشمس أو الرياح أو حركة المياه في الأنهار، إضافة إلى الطّاقة الحراريّة في جوف الأرض وحركة الأمواج في البحار والمحيطات. وتُعَدّ كلّ هذه الطّاقات مكلّفة مُقارَنةً بالطّاقات الأحفوريّة (النفط والغاز الطبيعي والفَحم)، ومُستهلِكة لكثيرٍ من المعادن الاستراتيجيّة (النحاس، النيكل، الكوبالت، اللّيتيوم) التي سيزيد عليها الطّلب في العالَم. كما يتطلّب التحوّل الطّاقي الاستثمارَ في وسائل النَّقل التي تعمل على الكهرباء مثل السيّارات الكهربائيّة التي لا تزال أسعارها مرتفعة جدّاً مُقارَنةً بالسيّارات ذات المُحرّك الحراري. وكلّ هذا من شأنه أن يرفع من فاتورة الطّاقة بالنسبة إلى الأُسر والشركات، ويزيد من تكلفة التنقّل ونقْل السلع، ما له أثر تضخُّمي لافت.

في الختام يمكن القول إذاً إنّه من المرجّح أن يبقى التضخّمُ الأساسي فوق العتبة المُستهدَفة لسنواتٍ طويلة لاحِقة قَبل أن يرجع إلى ما دون الرقم السحري لـ 2 % بشكلٍ مُستدام.

*كاتب ومُترجِم مغربيّ

* ينشر بالتزامن مع دورية افق