التنمية إذن ليست طرفا مقابل الثقافة، بل هي خطط ومشروعات ذات طابع فكري عقلاني، يستند إلى تحليل الواقع واكتشاف علاقاته التركيبية المعقدة، طموحا إلى تحريكه إلى الأفضل والأرقى والأنفع. إنها نشاط ذهني ينتمي إلى مجال الثقافة، فكيف تعد طرفا في مقابل ذاتها. وإذا نظرنا للمشكلة من جانبها الآخر، أي من جانب الثقافة، فإننا ننظر في الحقيقة إلى الوجه الآخر للعملة، وهذا معناه أن (ثقافة التنمية) و(تنمية الثقافة) ليسا مفهومين متقابلين يمكن أن يتحقق أحدهما في استقلال عن الآخر. ولسنا بحاجة للتأكد أن هذا الفهم العضوي الجانبي التنمية / الثقافة (أو الثقافة / التنمية) - ولا نقول الطرفين - إنما ينطبق على التنمية الحقة / الثقافة الحقة، التي تحقق وتعبر عن مصالح المنتجين الحقيقيين في المجتمع. وفي الحالات المرضية تكون هناك خطط ومشروعات للتنمية، لكنها لا تنجح في تحقيق تحريك المجتمع ورفع مستوى المواطن واشباع حاجاته المادية والروحية، ولنلاحظ أن إحدى الدلالات اللغوية للصيغة الرباعية للفعل - أنمى أو نمى - الرفع والإشباع، يقال: أنمى النار ونماها: أي رفعها وأشبع وقودها. قد يقال في مثل هذه الأحوال إن خطط التنمية لم تراع
ظروف الواقع، وقد يقال إن المشكلة تكمن في القائمين على تنفيذها، وقد يقال إنها فشلت لأن الجماهير - صاحبة المصلحة الحقيقية - لم تتحمس لها بالقدر الكافي، وأيا كان ما يقال من تعليل للفشل فإن العلة - علة المرض - تكمن في (العقل) المخطط أو في (العقل) المنفذ ، أي تكمن في الوجه الثقافي.
1992*
* باحث وأكاديمي مصري«1943 - 2010».