ومع أن الإسلام امتاز منذ بزوغ فجره قبل أكثر من 1400 عام بدعوته للاعتصام بحبل الله، وإعلائه لشأن الوحدة التي هي مفهوم إسلامي عظيم، يشمل بسماحته جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي كافة أنواع العلاقات بين الأفراد والجماعات، إلا أن حالة التمايز بين المذاهب الفقهية التي برزت في ظروف زمانية معينة تسببت في بروز نزاعات تطورت إلى تطرف أسهم في تزايده عدم التوعية الكافية للشباب بالقيم الدينية الصحيحة.
لذلك فإن هذا المؤتمر يستمد أهميته من مجموعة من الدلالات، في مقدمتها رمزية الزمان وقدسية المكان، ومن الظرف الدقيق والمنعطف التاريخي الذي تمر به الأمة الإسلامية التي تواجه تحديات مصيرية، مما يحتم ضرورة توحيد كل الجهود واستنفار كافة المقدرات، لتجاوز العقبات والتغلب على أسباب الخلاف والتمسك بالقواسم المشتركة لتكون أمة واحدة قادرة على البقاء والاستمرار.
وكعادة المملكة عندما تقوم باستضافة فعالية عالمية فقد كان التنظيم دقيقا ورائعا، فالمشاركون تم انتقاؤهم بعناية، وأتيحت لهم الفرصة الكافية للتعبير عن رؤاهم ووجهات نظرهم، وكان الحوار شفافا وصادقا، ومعبرا عن رغبة عقلاء الأمة في نزع فتيل الخلافات، والاستمساك بالمشتركات الكثيرة التي يمكنها أن تكون أرضية ثابتة يقف عليها الجميع.
وتسابق المشاركون الذين أتيحت لهم كافة فرص التعبير عن وجهات نظرهم في تأكيد توافقهم على أن الإسلام، ذلك الدين العظيم الخاتم للأديان الذي تفرد بصلاحيته لكل زمان ومكان أكبر من أن يستوعبه وعاء واحد، لأنه يمتلك مرونة عالية وقدرة فائقة على التكيّف، ومن هنا فهو الدين الوحيد القابل للتطبيق في كل المجتمعات.
ودأبت المملكة طيلة الفترة الماضية على تأكيد أهمية التواصل بين قادة المذاهب الإسلامية، ودعت مرارا وتكرارا إلى إزالة الحواجز المفتعلة بين المسلمين، وتجاوز العقبات المصطنعة، والتصدي لكل مثيري الأزمات، واستضافت العديد من جولات الحوار بين أبناء الدين الواحد الذين مهما تعددت مدارسهم ومذاهبهم فإنهم يتوجهون نحو قبلة واحدة ويجمعهم القرآن وتوحد بينهم ثوابت الإسلام.
وحرصت القيادة السعودية وكافة الأجهزة والمؤسسات ذات الصلة على تعزيز الحوار وتحويله إلى منهج عملي وسلوكي متحضر يفسح المجال لاكتشاف الآخر، كما تشددت في التصدي لمن دأبوا على تزكية الخلافات واستخدامها وسيلة لإثارة الاحتراب بين الناس. كما دعت لتعزيز التفاهم كآلية عمل لتذويب الخلافات، وتعزيز القواسم المشتركة، وجعل الحوار بديلا عن التصارع والشقاق، وصولا لبلورة تصور يحقق مساحة من التوافق بشأن قضايا الهوية والثقافة والاتجاه والعلاقة بين كافة مكوّنات الأمة.
والمملكة عندما تقوم بذلك، انطلاقا من مكانتها الروحية الفريدة كمهبط للوحي وحاضنة للحرمين الشريفين وقائدة للعالم الإسلامي، فإنها تدرك أهمية تكريس ثقافة التعايش والتسامح والتكامل بين جميع المذاهب، وأن الاختلاف بين أبناء الدين الواحد لا ينبغي أن يكون مدخلا للخلاف، فهو دليل ثراء وتنوّع وليس مؤشرا لنزاع أو شقاق، وهو عامل أساسي لإطلاق كوامن الإبداع، يستجيب لطبيعة الكون ويتوافق مع منطق الفطرة الإنسانية. لذلك حملت على نفسها واجب الدعوة للحوار في وقت كان فيه البعض يدعو بكل أسف للفئويات والعصبيات داخل الجسد الإسلامي.
لكل ذلك تجاوب المشاركون في مؤتمر «بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» مع دعوات المملكة، وحفلت كلمات العلماء بالدعوة إلى الصرامة في مواجهة خطابات وشعارات وممارسات التطرف الطائفي ومحاولات إذكاء الصراع والصدام المذهبي الذي يضيع قيم الإخوة الإسلامية ويسيء لسمعة الإسلام والمسلمين. ونادوا بالتعامل مع الجميع بأخلاق الإسلام الرفيعة وإحسان الظن بين إخوة الدين الواحد، ووضع خارطة طريق تسير بالجميع نحو مزيد من الوعي.
ورابطة العالم الإسلامي عندما تدعو إلى هذا المؤتمر وتقوم بتنظيمه في هذا الظرف العصيب فإنها تؤكد استشعارها لدورها المحوري والرئيسي في جمع كلمة علماء الأمة، وتعزيز الثقة والتعاون بين مذاهبهم وفق قيم إسلامية راسخة مستمدة من روح الإسلام الذي أمر بالاجتماع والائتلاف ووحدة الكلمة والصف، والبعد عن الفرقة والاختلاف.
وعلى عاتق العلماء مهمة كبرى في ترسيخ هذه المفاهيم وسط قواعدهم وطلابهم، فهم مصدر الفتوى والتوجيه الديني، والتزامهم بآداب الحوار يضمن وجودها لدى عامة المسلمين، لأن العلماء هم القدوة الحسنة، وقد أثبتوا في مناسبات كثيرة أنهم أهل لهذه المسؤولية الملقاة على عواتقهم.
وإن كانت الوحدة بين كافة أبناء الملة الواحدة مطلبا أساسيا طيلة الفترة الماضية فإن أهميتها تتزايد في هذا العصر الذي يواجه فيه المسلمون تصاعدا في ظاهرة الإسلاموفوبيا، وهو ما يستدعي تكثيف جهود علماء الأمة وقادتها لتجاوز الخلافات وتنسيق المواقف، لأن العداء يستهدف المسلمين كافة ولا يفرّق بين مذاهبهم وطوائفهم، لذلك فإن الآمال كبيرة في أن يؤصّل هذا المؤتمر للتقارب بين المذاهب الإسلامية وأن تسهم توصياته ومخرجاته في وضع الأسس والمنطلقات التي يقوم عليها هذا التقارب.