لذلك فإن الأجيال في حالة اهتزاز ثقافي دائم، تتفاعل مع العناصر الثقافية الوافدة تقليداً إليها على نحو يجعل كل جيل من أجيالها مختلفاً نسبياً عن الذي سبقه بالاستعداد والقوة فقط. فالجيل اللاحق يحمل على أكتافه الموروث الثقافي الذي سلّمه إياه الجيل السابق، مع حرية التعامل معه على قاعدة التقليد أو على قاعدة التجديد، علماً بأن الخيار الأول هو الأقل تكلفة ومجهوداً. فأيهما يختار الجيل اللاحق؟ ولماذا عندما يلجأ هذا الجيل إلى خيار التجديد، يهرع المعلِّقون إلى استخدام تعبير «مشكلة الأجيال» لتوصيف هذه الظاهرة؟
توقف المفكر الاجتماعي الألماني كارل مانهايم طويلًا عند معضلة صدام الأجيال من باب ثنائية التقليد والحداثة، حيث قام بتأليف كتاب في هذا الموضوع ينطلق من التجربة الغربية نفسها، ليقول إن التقدم العمراني البشري إنما يقوم على التكامل بين الحداثة والتقليد. لكن كيف يتأتى ذلك؟ وهل تصح نظريته في العالم العربي المعاصر؟
المعادلة المعرفية الجديدة
باتت معرفتُنا بمميّزات الظاهرة الاجتماعية الخاصة بالمجتمعات الموصوفة بالتقليدية واسعة نسبياً اليوم، بيد أن هذه المعرفة تبقى عاجزة عن حل مشكلتنا نحن، كأناس يعيشون في أزمنة معاصرة تطغى عليها الحداثة، في ظل موروثات ثقافية ورمزية مسبوكة في أزمنة ماضية.
لذلك، عندما نقارن أنفسنا بالمجتمعات المتقدمة الأخرى في الغرب، نجد أن المجتمعات التي تقدمت فيه لها تاريخ ماضٍ زاهر وتاريخ حاضر زاهر أيضاً. أما نحن فلدينا تاريخ ماضٍ زاهر وتاريخ حاضر باهت. وعندما نُمعن في المشهد بالتدقيق، نُلاحظ أن المجتمعات التي تقدمت لها أجيال متعاقبة لا تشبه بعضها بعضاً، بل إن كل جيل من هذه الأجيال يقوم بتنمية نفسه معرفياً من خلال خبرات وطرائق تفكير جديدة. فيتبع أهله نماذج إرشادية تختلف في كل حقبة عن تلك التي كانت سائدة في الحقبات السابقة، إذ يَدَع الجيل الجديد العوامل الثقافية والقيمية الجديدة تفعل فعلها من غير ممانعة قاطعة، ويتقولب معرفياً معها.
أما عندنا، فالمسألة مختلفة، حيث يعلم الجميع، لكن من دون الإقرار بالحقيقة، أن جيلاً معرفياً واحداً يمتد فينا من الماضي إلى الحاضر. وكأننا نريد أن ننتمي إلى جيل معرفي واحد يعتمد معرفة واحدةً وطرائق تفكير وتخطيط وتنفيذ واحدة في الحقلَيْن الاجتماعي والثقافي. فما زالت تَرِدُ على ألسنتنا أسئلة استكشافية نعتبرها طبيعية تقول: «من أي عائلة أنت؟» أو «من أي دين أو مذهب أنت؟» أو «من أي منطقة أنت؟». وكلها أسئلة ملغمة تقوم على افتراضات مسبقة وأحكام مسبقة عن هوية الآخر الأهلية، كشخص ينتمي إلى جماعة بعينها بالضرورة، لا كفرد مستقل.
تظهر بين الحين والآخر ومضات فكرية لامعة، تمر كالنيازك في فضائنا الثقافي لكن من دون أن تترك أثراً مستداماً في الوعي الجمعي، كقول مهاتير محمد (رئيس وزراء ماليزيا سابقاً) إنه عندما ينوي الصلاة، يوجه نظره إلى مكة المكرمة، لكن عندما يفكر بالتنمية والصناعة، فإنه يوجه نظره إلى اليابان. أي إن التعامل مع التقدم والتغيير يحتاج إلى مرونة تفاعلية مع المعرفة المختلفة المستنبَتة من خبرات واختبارات مبتكرة وجديدة.
لذلك، عندما يسود التصلُّب المعرفي، تكون النتيجة اعتمادا قسريّاً لأحد نَمطَيْن: إما الغرق في التقليد الشكلي والسطحي للعوامل الثقافية الوافدة، وإما إبداء رفضٍ ومُمانَعةٍ وانغلاق ثقافي تام، من النواحي كافة، مع الإبقاء على فتحة سماوية ضيقة، كما في البيوت القديمة، تسمح باستنشاق بعض الهواء الرمزي. لكن، في الحالتين، نبقى أمام جيل اجتماعي موحد وممتد، مهما بلغت أعداده، يلتزم الصمت المعرفي، مُكتفياً بتكرار حرفي لما نقله له الجيل السابق من قوالب جاهزة في التنشئة الاجتماعية التقليدية.
مشكلة في المعرفة لا في الأجيال
في الواقع، لسنا الوحيدين الذين يعانون من هذه المشكلة المعرفية والذين يشعرون أنهم في مأزق. كانت البلدان الغربية نفسها في وِضعَةٍ مُشابهة في ما مضى، وعلى مدى قرون طويلة. لكن، كيف استطاعت الخروج منها واكتشاف الوصفة العلاجية المفيدة والنافعة؟ صاغها كارل مانهايم في كتابه Le problème des générations على النحو الآتي قائلاً: «من أجل ديمومة مجتمعنا نحتاج إلى الذاكرة بقدر حاجتنا إلى النسيان والعمل التجديدي».
بدايةً لا بد من الإشارة إلى أن المفكر الألماني يستخدم مفهوم «مجتمعنا»، على نحو جامع وموَحَّد، وهو أمر يستحيل سحبه على المجتمعات التقليدية المختلفة في ما بينها. يعني مانهايم تحديداً الغربي منها، الموحَّد على قاعدة المواطنة المدنية المبنية على أُسس الحرية والعدالة الاجتماعية. ولكن، كيف تجلّت النقلة المعرفية هذه في دول الغرب؟ تجلّت في رأي مانهايم باعتماد المجتمع الغربي معادلة معرفية جديدة تقول، اختصاراً، الآتي: التقدم = الذاكرة + النسيان (الابتعاد النسبي عن الموروث)؛ أي، بكلام أوضح، التقدُّم = التراث + الإبداع المُعاصر (التجديد).
فالمحافظة على الذاكرة الجماعية والتراث والموروثات الثقافية أمر ضروري وواجب، غير أن الشرط الثاني والإلزامي هو الشروع في نسيان نسبي لهذا الموروث بتشذيبه إرادياً بغية الانفتاح على تجديده وتغيير ما يحتاج فيه إلى التغيير. علماً أن في هذا الجزء الثاني من المُعادَلة تكمن صعوبة قصوى، على الجيل الشبابي الجديد أن يجتازها بشجاعة ومسؤولية وإقدام حضاري، وإلا تبقى ثقافة المجتمع على تقليديتها ويزداد تكلُّسها سنة بعد سنة. ففي إطار هذه المعادلة التي ضبطها المفكر الاجتماعي الألماني لا قدسية للمعارف التراثية، بل حق مشروع بالوجود، كما أن لا قدسية أيضاً للمعرفة الجديدة المبتكرة لكونها قابلة للمراجعة و«النسيان» على الدوام لاحقاً، مع ظهور كل أنموذج إرشادي علمي جديد.
هكذا يتقدم المجتمع ويتوحد معرفياً، ويُبقي نفسه على سكة التقدم، باستنهاض واستلهام بعض ما ابتكرته الحداثة، وبعض ما هو متوفر في التراث؛ إذ إن فكرة من الماضي تغدو موازية، في التثقيل العلمي، لفكرة من الحاضر. ذلك أن الفكرتين تصبان حينها في عملية بناء عمران بشري مستقبلي واحد.
يخترق كارل مانهايم بكلامه هذا، معنى المعارف في حياة البشر، ماضياً وحاضراً. وهو لا يقدِّم لنا توليفاً سطحياً بين التراث والحداثة، بل تحليلاً لسر تقدّم الحضارات أو ضمورها واختفائها، مُعيداً إلى شكل الوعي البشري السائد في المُجتمع (أو المجتمعات) امتلاك سر التقدم من عدمه؛ فالأمر يعود في النهاية إلى طرائق التفكير ومآلها النهائي في الواقع المعيش بالتخطيط والتنفيذ. وهذا ما يحتاج إلى قرار حقيقي وإستراتيجي بالانتقال من مجتمعات التقليد أو النيو - تقليد إلى المجتمعات الحديثة؛ علماً أن معادلة مانهايم ليست مُعادلة إيديولوجية سياسية تقول بإلزامية استبعاد التقليد والقضاء عليه، بل هي مُعادلة معرفية تقوم على ضرورة المحافظة على بعض التقليد واستثماره في إطار مُعادلة فكرية جديدة ومُجدِّدة، كالخميرة التي تسهم في صنع الخبز.
من هنا يستحيل اتهام هذه المعادلة باستهداف التراث الثقافي، حيث إنها تعمل على إعادة تأهيله بغية إعادة استثماره في الحاضر؛ أي إن ما تقترحه هو نسيان ما هو معروف في التراث نسبياً بهدف إفساح المجال أمام الطاقات الإبداعية الكامنة في التراث بأن تستعيد فاعليتها وحيويتها بصيغة راهنة، وأن تدخل عبر هذه البوابة إلى الحاضر.
تسمح معادلة مانهايم بتفسير معارف الماضي مع معارف الحاضر وجعلها قابلة، معاً، للبقاء على قيد الحياة في نماذج إرشادية جديدة في المستقبل، لا يعود وارداً فيها الانقطاع الابيستمولوجي المصاحب للتراث اليوم، بل يغدو التواصل المعرفي المفتوح، لا المغلق، مُشرِفاً على المسار الثقافي العام في المجتمع.
هذا هو سر العمران البشري في التجارب الغربية الذي سمح لهذا الجزء من العالم بالتقدم الثقافي والاقتصادي والسياسي على نحو مطّرد. وقد حاولت بعض بلدان غير غربية نقله واعتماد هذه المعادلة بعزم وتصميم، فتقدمت بهدوء وأصبحت منافسة اليوم للدول الغربية الكبرى نفسها. أتكلم هنا على بلدان كانت أشد تجذُّراً في التقليد من بلداننا، أي اليابان والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة؛ حيث تحولت اليوم، بقرار من قيادات رشيدة وبتنشئة اجتماعية جديدة، مُدرِكة ضرورة الانتقال إلى العصور الحديثة الغالبة؛ فالعمران البشري مَبني على أفكار أولاً وأخيراً. وبقدر ما تكون هذه الأفكار حية متقدمة، يكون العمران والتقدم تفاعلياً. علماً أن جذور الأفكار كلها، إنما تقوم على تنشئة اجتماعية مؤاتية ومناسبة. لذلك، قل لي أي تنشئة اجتماعية تلقَّيت، أَقل لك من أنت.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أن معادلة كارل مانهايم التكاملية بدت مفيدة حيثما اعتمدت، ولا حاجة للإطالة بشرحها غرباً، حيث أَتت مندمغة بالمسار التاريخي والاجتماعي لشعوب هذه البلدان. أما في ما يتعلق بالمقلب الشرقي من المعمورة الذي بقي طويلاً مغموراً بالتقليد، فالفائدة تقوم راهناً على أن صيغة تكامل الأجيال، لا مجرد تعاقبها، ولو أَتَت مفروضة من السلطة الحاكمة، قد تمكنت من تقديم تجسير معرفي مفيد بين الماضي والحاضر. ففي معادلة مانهايم أضحى التواصل طبيعياً بين التقليد والحداثة، من دون تحفُّظ فكري أو إيديولوجي، أي إن التواصل المقصود أدرك على نحو تكامل معرفي صرف لا مكان فيه لمواقف الممانعة والتشويش الآتية من أُفق الجماعات العصبية المختلفة والأحزاب السياسية السلفية المموهة الباقية حتى اليوم على امتداد العالم العربي والشرق الأوسط المعاصر. فإذا كانت العصبيات مثلاً من صلب التراث الماضي، فإن على الأجيال الجديدة ألا تبقى ملتزمة بها، لكونها مناهضة لتقدّمها هي، ولتقدُّم العمران البشري الذي يخص مستقبلها كما مستقبل المجتمعات التي ستعيش بين ظهرانيها.
*عالم اجتماع من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية