كان فشل مفاوضات الهدنة متوقّعًا: بنيامين نتانياهو وزمرة المتطرّفين التي تسيّره لا يريدون إنهاء الحرب، ولا مجال للمراهنة على «اعتدال» بيني غانتس أو غادي ايزنكوت فهما عسكريان بنيا سمعتهما على قتل الفلسطينيين. لذلك فإنهم يعتبرون جميعًا أن إسرائيل خسرت الكثير وتهشّمت صورتها داخليًا وخارجيًا، لكنها لا تزال تعوّل على احتمال ولو ضئيل لأن تربح «صورة النصر» بالوصول إلى قادة «حماس» في آخر زاوية من النفق الأخير، حتى لو كلّفها ذلك التسبّب بقتل مَن تبقّى من رهائن وتعريض العلاقة مع أمريكا للاهتزاز. وعلى أي حال، وعلى الرغم من اهتمام واشنطن بالرهائن الأمريكيين في غزّة، ومن حاجة إدارة جو بايدن إلى الهدنة في حملته الانتخابية، لم يصدر عنها ما يشير إلى أي تغيير في تأييدها للحرب، بل إنها اختارت تحميل «حماس» مسؤولية انهيار مفاوضات الهدنة. ثم إن إنزال المساعدات جوًّا وبناء ميناء موقّت لإيصالها لا يحجبان عدم الرغبة في إلزام إسرائيل بتسهيل وصولها برًّا، ولا الاستمرار بتوفير الأسلحة التي يستخدمها الإسرائيليون في قتل منتظري المساعدات...
ربما كانت الاعتبارات نفسها تتحكم بحسابات إيران ومشوراتها/ أوامرها لوكلائها، ما ينعكس في تشدّد «حماس» بشروطها للهدنة، وأهمها أن يكون وقف نهائي لإطلاق النار. فبعدما دفعت بالغزّيين إلى هذا الكمّ الهائل من التضحيات معتبرةً ذلك «صمودًا بطوليًا» من جانبهم، ليس هناك معنىً، بالنسبة إلى الحركة، لأي توقّف مؤقّت ثم استئناف مواجهة قتالية تعرف مسبقًا أنها ستستمر حتى «القضاء» على القدرات العسكرية لـ «كتائب القسام» والفصائل الأخرى. لدى «حماس» ما تخسره، وهو أن تكون أو لا تكون في «اليوم التالي»، لذا فهي حسمت خيارها بـ «النصر أو الاستشهاد»، أي أن تكسب ولو معنويًا في غزّة التي تحوّلت قطاعًا من ركام وخيام وسكانًا من جياع ومكلومين... وهكذا بلغت مفاوضات الهدنة انسدادًا من طرفيها، وأفضت عمليًا إلى النتيجة نفسها، فإسرائيل متمسّكة بالذهاب إلى «المجزرة الكبرى» وإيران لا تريد أن تنتهي الحرب بخسارتها ورقتَيْ «حماس» و«الجهاد».
مهّد مجلس الحرب الإسرائيلي لفشل مساعي الهدنة بتهديد «حماس» بأن شهر رمضان لن يكون عقبة أمام تنفيذ الخطة الجاهزة لاجتياح رفح إذا لم توافق على الاتفاق المقترح لوقف مؤقّت لإطلاق النار. واستعرضت مقالات وتحليلات إسرائيلية وقائع حربية قديمة وحديثة حصلت خلال شهر رمضان لإقصاء ذريعة الضرورة التي تبرّر الضغط حتى الأمريكي على إسرائيل كي توقف الحرب، وأيضًا للدلالة إلى أن شهر الصوم لدى المسلمين لم يحل دون شن «حرب العاشر من رمضان» (حرب 6 أكتوبر 1973) مثلًا، أو حروب ومواجهات تبادل الطرفان إشعالها في غزّة في 2014 (الجرف الصامد) و2021 (سيف القدس)، وقبلها أو بعدها في مواجهات الأقصى (1989) ومجزرة الحرم الإبراهيمي (1994) وأيام الغضب (2004) واقتحام المستوطنين للأقصى فجرًا (2023)، وغير ذلك... وكان للتذكير بهذه الأحداث هدفان: المحاججة بأن حلول رمضان خلال حرب دائرة ليس مبرّرًا لوقفها، وإثبات أن المسلمين أنفسهم لم يكرّسوا هذا الشهر للتهدئة والتهادن بل حافزًا للجهاد.
وبطبيعة الحال تجاهل مستعيدو تلك الوقائع أن هناك احتلالًا، وأن استفزازات واعتداءات سبقتها وتبعتها كمحاولات حرق المسجد الأقصى وتكرار اقتحام حرمه وفرض قيود على الصلاة فيه. وعدا أن هذا الممارسات لامست طابعًا دينيًا للصراع، فإن زمرة المتطرّفين في الحكومة الحالية تواصل تحدّي التحذيرات من اندلاع حرب دينية، وقد منحها الجيش حجّة إضافية بإقدامه على تدمير منهجي لمساجد غزّة وقيام جنوده بأعمال تدنيس متعمّد للعديد منها حتى بعد هدمها. قد يكون الضغط الأمريكي لانتزاع «هدنة رمضان» من قبيل إظهار الاحترام لشهر الصوم، ليس أمام الفلسطينيين وإنما إزاء دول مسلمة ترشّحها واشنطن لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
كان يوم المرأة العالمي فلسطينيًا هذه السنة، وسط شهادات قاسية لنساء يجاهدن لتضميد الجروح والبحث عن أي طعام لإبقاء أبنائهن وبناتهن على قيد الحياة. وتزامن هذا اليوم مع صدور تقرير أممي صادم تضمّن توثيقًا للحالات الأبشع في ممارسات قوات الاحتلال في السجون، وبينها اغتصاب أكثر من مئة امرأة، عدا التعذيب الهمجي الذي أدّى إلى تصفية العشرات من المعتقلين. لكنه تزامن أيضًا مع توصية الحاخام الياهو مالي بقتل نساء غزّة وأطفالها «طبقًا للشريعة اليهودية»، وقد أظهرت القوات الإسرائيلية التزامًا دقيقًا بتطبيق القتل، كما شرّعه هذا الحاخام وسواه، لأن النساء ولّادات وهن «مصدر الحياة» أما الأطفال فهم «مقاتلو المستقبل»، والأفضل أن يُقضى عليهم الآن.
يريد الرئيس الأمريكي أن يكون لإسرائيل إشراف أمني على الميناء المؤقّت للمساعدات، وبذلك يجرّد مبادرته من بُعدها الإنساني البحت. وتريد إسرائيل الاحتفاظ بوجودها العسكري في قطاع غزّة أيًّا تكن طبيعة «اليوم التالي»، فبعدما فرضت الحصار الشامل وصولًا إلى المجاعة تصرّ على أن يُعطى لها «الحق» في هندسة تلك المجاعة وإدامتها لتوظيفها في تهجير الفلسطينيين من غزّة، وبعدما ارتكبت الفظائع الإجرامية ستسعى جهدها لكبح انكشاف ما خفي من حقائق بعد انتهاء الحرب كي يعود حلفاؤها إلى تأهيلها كـ «واحة ديمقراطية وحيدة في الشرق الأوسط»، على الرغم من اكتشافهم أن هذه «الإسرائيل» منبوذة من أجيالهم الجديدة. إذ إن بشاعة جرائمها لطّخت سمعة الديمقراطيات الغربية التي دعمتها، فأقلّ ما باتت تلك «الديمقراطيات» توصم به أنها شريكة إسرائيل في ارتكاب الإبادة الجماعية.
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»