يتساءل الكثيرون ولا يتوقفون عن السؤال: لـم الفلسفة؟! والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في السؤال عينه! ذلك أن العقل الإنساني فُطِر على التساؤل؛ ومن ثمّ فهو قادر على محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات... ومنها: ما حقيقة الوجود ككل، وما حقيقة وجود الإنسان، وما حقيقة هذا العالم الطبيعي بكل ما فيه من أشياء وكائنات، وما علة هذا الوجود والموجودات وما مصيرها؟! ماذا تعني الحرية وكيف أمارسها؟ وهل تصح حياة الإنسان الفرد من دون شعوره بإمكانية أن يفعل أو يقول أي شيء بحرية؟! ما شكل المجتمع الإنساني السوي، وكيف تتحقق العدالة والمساواة بين البشر في أي مجتمع سياسي؟! إلى آخر هذه التساؤلات الحائرة والمعلقة.

وبالطبع فإن النمط العقلي الذي تمت به الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها هو ما سُمّي منذ العصر اليوناني بـ«الفلسفة»، وإن كان الأصل اللغوي والمعنى الاصطلاحي يعودان إلى الشرق القديم، وبخاصة في مصر القديمة.

لقد ابتدع فلاسفة اليونان القدامى التمييز بين اللوجوس logos وتعني العقل أو الكلمة أو القانون، والبراكسيس praxis وتعني العمل أو التطبيق. وتراوحت الفلسفة اليونانية بين الاتجاهين، وتطورت بهما على يد أعلامها. فاعتُبر التيار السفسطائي رائداً للاتجاه الأول، بينما اعتُبر بارمنيدس وأفلاطون رائدَيْن للاتجاه الثاني. وقد انتمى كل الفلاسفة عبر تاريخ الفلسفة الطويل إلى أحد هذَيْن الاتجاهين.


وعلى الرغم مما قامت به الأديان من خلال أسفارها المقدسة من تقديم إجابات واضحة عن تلك التساؤلات الفلسفية وغيرها، إلا أنه ما زالت لدى الإنسان بقية منها حول حقيقة نفسه وطبيعة المشكلات التي يواجهها، والتي تتجدَّد بتجدُّد الزمان والظروف، وحول كيفية تكوين المجتمع الإنساني الناجح القادر على صنع التقدم واستدامته، وشكل الفنون والآداب، وكيف تصنع الحسّ الإنساني وتنمي ذوقه، وطبيعة الأخلاق المناسبة لكل عصر، وما إذا كان ينبغي أن تختلف أخلاق الإنسان من عصر إلى آخر، أم ينبغي أن تظل القيم الأخلاقية ثابتة، على الرغم من اختلاف بيئة البشر وزمانهم؟!

هنا يبرز الدور المتجدد لفلاسفة كل عصر؛ فهم يعبرون عن هذه التساؤلات ويكشفون من خلالها عن مواطن الضعف والقصور، ومن ثم يحاولون إيجاد السبل لحلها حتى تصبح حياة الإنسان في هذا العصر أو ذاك، وبحسب ظروفه، أكثر قرباً من الكمال المنشود. إنهم المنوط بهم دائماً الدفع بحركة مجتمعاتهم إلى الأمام عبر تقديم الأفكار الجديدة التي تسهم في نقل الحضارة الإنسانية من حال إلى حال أفضل؛ إنهم إذن دعاة التغيير في عصرهم منذ قديم الزمان. ولعل نظرة سريعة إلى تاريخ الحضارة الإنسانية تؤكد لنا ذلك، وبما لا يدع مجالاً للشك في أهمية الدور الحضاري للفلسفة الذي قام به رهط من الفلاسفة الكبار عبر العصور على الصعيدين النظري والعملي.

فجر الضمير الأخلاقي للإنسان

منذ فجر الحضارة الإنسانية، بلور المفكر المصري القديم «بتاح حوتب» في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد أول رؤية أخلاقية حول إصلاح فضائل الذات والمجتمع، وقدم أوّل مذهب أخلاقي أساسه ضبط النفس لدرجة اعتبر معها المؤرخون كتابه «مخطوط الحكمة» فجر تكوين الضمير الأخلاقي للإنسان. وأتى بعد ذلك أخناتون الملك الفيلسوف في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وطوّر عقيدة المصريين القدامى حينما رفض عقيدة التعدد وتجسيد الآلهة، ودعا إلى عبادة إله واحد ليس كمثله أحد.

وهكذا فعل فلاسفة اليونان بعد ذلك، حيث نقلوا البشرية من عصر التفكير العملي المختلط بالأسطورة إلى عصر التفكير العلمي والإبداع النظري. لقد أبدع أرسطو علم المنطق لضبط التفكير العقلي والعلمي عند الإنسان، ومن ثم نجح في القضاء على الفكر السفسطائي الفوضوي الذي كاد اليونانيون يغرقون فيه من دون أن يستطيعوا التمييز بين الحق والباطل، أو بين الصواب والخطأ.

وجاءت العصور الوسطى وظهر الإسلام وجاء فلاسفته ليسهموا برؤاهم الفلسفية الثاقبة حول التوفيق بين الفلسفة والدين بتأكيدهم على أن الحق لا يضاد الحق، وأن الله الذي أرسل لنا وحي السماء على لسان نبينا محمد (ص) هو نفسه الذي ميزنا بالعقل، وجعله مناط التكليف، وأساس الحرية والإرادة، وأداة الاجتهاد في فهم الشريعة والإيمان بها، ومن ثم نجحوا في إقناع المسلمين بأهمية علوم المنطق والفلسفة، وبأن يتخذوا منها منهجا للتفكير الصحيح، ونقطة انطلاق للإبداع العلمي، وأساساً للتقدم الحضاري الذي قاد أوروبا بعد ذلك إلى عصر النهضة والتنوير.

ولقد صنع فلاسفة الغرب المحدثون الأمر عينه بالنسبة إلى حضارتهم التي ذوت وكادت تموت طوال القرون الوسطى المظلمة؛ فدعا مكيافيلّلي في كتابه «الأمير» (1515م) في مطلع القرن السادس عشر إلى فصل الدين عن الدولة حتى يتمكن الحكام من ممارسة الحكم على أساس تحقيق الأهداف السياسية الاقتصادية والاجتماعية لمواطني الدولة من دون خشية عقاب الكنيسة ومن دون الارتماء في أحضانها. وواكبت ذلك حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر 1517م. وقد ترتب عن هذا وذاك تطوّر الفكر السياسي الأوروبي بعد ذلك، وظهور فلاسفة العقد الاجتماعي من توماس هوبز إلى جان جاك روسو، مروراً بفيلسوف الليبرالية الأكبر جون لوك.

رواد عصر التنوير والحداثةوما إن أشرف القرن السادس عشر على نهايته ليبدأ القرن السابع عشر حتى ظهر في أوروبا فيلسوفان عظيمان هما رينيه ديكارت في فرنسا وفرنسيس بيكون في إنجلترا، اللذان حملا على عاتقهما ريادة عصر التنوير والحداثة. كتب الأول كتابيه «مقال عن المنهج» و«التأملات» للتعبير عن منهجه العقلي الجديد وكيفية تطبيقه في إصلاح تفكير الإنسان وممارسته لحريته العقلية في الفهم والتفسير والتعبير، بدءاً من مقولته الشهيرة إن «العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس» والقاعدة الأولى من قواعده العقلية المنهجية التي تنص على «أنه لا يقبل شيئاً قط على أنه حق ما لم يتبين له بالبداهة والوضوح أنه كذلك». وتأثُّراً بديكارت ومنهجه العقلي، أطلق الإنسان الأوروبي عقله الفردي في كل اتجاه ليبدع ويكتشف حقائق الوجود والإنسان بعيداً عن الأفكار الجامدة الموروثة، مستفيداً من ذلك المنهج العقليّ، ومن التوجيهات العلمية الأخرى لديكارت التي دعا فيها للسيطرة على الطبيعة من أجل تحسين حياة الإنسان وجودتها.

أما فرنسيس بيكون، فقد كتب «الأورجانون الجديد» لينتقد المنطق الأرسطي القديم ويهدم الطريقة المدرسية الجامدة في التعليم. فدعا إلى منهج علمي جديد يقوم على جانبين، أحدهما سلبي نقدي يتخلص المرء فيه من كل ما علق بذهنه من أوهام نتيجة التأثر بالتعاليم والنظريات العلمية القديمة والتمسك الجامد بها، حيث كشف للجميع أنهم يقعون في الأوهام نتيجة التمسك بهذه الآراء والنظريات القديمة التي لا تستند إلى منهج عقلي وعلمي سليم بقدر ما تعتمد على ترهات واصطلاحات لغوية عديمة الجدوى والفائدة، والجانب الآخر إيجابي يستند ببساطة، بعد التخلص من هذه المعارف والنظريات القديمة، إلى النظر إلى الظواهر الطبيعية نفسها، وملاحظتها كما تحدث في الواقع، ومن ثم يتم تصنيف هذه الملاحظات، للوصول إلى العلة المُفسِّرة للظاهرة. عُرِف هذا المنهج لدى بيكون، ومن بعده لدى جون ستيوارت ميل وديفيد هيوم وغيرهم بالمنهج الاستقرائي التجريبي. وهو المنهج الذي نقل الأوروبيين إلى ما سُمّي ولايزال بـ«عصر العلم» وترتب عنه، وعن تطبيقاته وتطوراته، كل التطورات العلمية والاختراعات التي حققت التقدم المذهل للحياة الإنسانية منذ ذلك التاريخ حتى الآن.

ويُخطئ من يظن أن دور الفلسفة قد تضاءل في عصر العلم، لأنه ببساطة لا علم بلا فلسفة؛ فالتقدم العلمي مرهون بوجود علماء يملكون عقليات فلسفية قادرة على تقديم الفروض العقلية الخلاقة لحل المشكلات الناتجة عن التطورات العلمية بصورتها التراكمية التقليدية. وقد اعترف كثير من العلماء بفضل الفلسفة والفلاسفة عليهم مثل ألبرت أينشتاين الذي قال إن أستاذه هو فيثاغورث (وهو فيلسوف يوناني عاش في القرن السادس قبل الميلاد)، وقد تعلم منه أن الفهم الصحيح للطبيعة لا يكون إلا عبر عالم العدد وعلوم الرياضيات.

عصر الفلسفة التطبيقية وعلى كل حال، فقد أصبحنا نعيش منذ ستينيات القرن الماضي عصر الفلسفة التطبيقية التي تولدت عنها فروع جديدة للفلسفة تتواكب، بل تقود وتوجه التطورات العلمية المعاصرة مثل: فلسفة البيئة، فلسفة السياسة، فلسفة القانون، فلسفة الأخلاق الطبية والبيولوجية وأخلاقيات البحث العلمي، فلسفة الحضارة وحوار الحضارات، فلسفة المستقبل، منطق المعرفة العلمية والتفكير الناقد، فلسفة الإنترنت والفضاء الإلكتروني، فلسفة الذكاء الاصطناعي.. إلخ. ولعل من أحدث فروع الفلسفة التطبيقية المعاصرة التي يمكن الإشارة إليها والتنبيه إلى أهميتها لحياتنا المعاصرة ما سمي منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي بالاستشارة الفلسفية أو العلاج بالفلسفة، مع أنها كفكرة وكممارسة قديمة قِدَم الفلسفة ذاتها، وليس أدل على ذلك من تلك المقولة الشهيرة «إن حياة غير مختبرة/ مفحوصة غير جديرة بأن تعاش» وهي مقولة نُقِشَت من ضمن أربع مقولات على واجهة معبد دلفي في أثينا القديمة، وهي تحثنا على مساءلة أمور حياتنا ووضعها تحت الاختبار والاستكشاف، للوصول إلى مستوى جيد للحياة. وتعتبر الاستشارة الفلسفية حركة جديدة في الفلسفة، وإن كانت جذورها تعود إلى سقراط والحوار الديالكتيكي الذي اتبعه مع شباب أثينا لتعليمهم الحق والخير والجمال. كل ما هنالك أن المصطلح اتخذ أبعاداً جديدة معاصرة مع ظهور مفاهيم مثل الاستشارة الفلسفية والعيادة الفلسفية والمستشار الفلسفي والمقاهي الفلسفية.. إلخ. إن الاستشارات الفلسفية تساعد في فهم حاجات المرء الأساسية للتواصل مع الآخرين، لاستكشاف شعوره الذاتي، وفهم ردود أفعاله العاطفية والمعرفية والسلوكية. كما أنها تعمل على زيادة الوعي الذاتي، والتسلح بالمهارات اللازمة للتعامل مع أنماط الحياة المختلفة، وإدارة العلاقات الإنسانية وحسن توجيهها. كما أنها تولد لديهم شعوراً أكبر بالمعنى والسيطرة والتحكم في مجريات حياتهم، ومن ثم الشعور بالرضا. إن الكثير من المشكلات التي ينظر إليها خطأ على أنها مشكلات نفسية وتوصف على أنها أمراض نفسية إنما هي في واقع الحال مجرد هزات فكرية تمر بالإنسان في لحظات كثيرة من حياته، ويكون عاجزاً عن إدراك كنهها بشكل صحيح فيتجاهلها أو يتخذ إزاءها قرارات متسرعة تسبب له الكثير من المشكلات في حياته. وكم يكتشف الفرد مدى بساطتها لو أنه عرضها وناقشها مع ما ندعوه بالمستشار الفلسفي الآن.

إن الفلاسفة ليسوا أبداً كما يتهمون من قبل البعض بكونهم بعيدين عن الواقع، بل هم طليعة النخبة المبدعة القادرة على بلورة ثقافة العصر الذي يعيشونه وإدراك صورتها العامة، مع كشف طبيعة التطور الذي تتجه إليه البشرية في ما بعد. وهم أيضاً الذين يحددون صورة هذا التطور وآلياته؛ ولا غرو، فالحقيقة أن الفلاسفة برؤاهم الفلسفية المتجددة، هم الذين نقلوا البشر دوماً بأفكارهم ومناهجهم ومذاهبهم الفلسفية الجديدة من عصر إلى عصر، ومن صورة معينة من التقدم إلى صورة أخرى أكثر تقدُّماً؛ وكما أوضحنا في ما سبق، فقد كانت صورة الفلسفة والعلم في العصر اليوناني ماثلة في كتابات سقراط وأفلاطون وأرسطو. كما كانت أفكار ورؤى بيكون وديكارت المنهجية والفلسفية هي التي نقلت الأوروبيين من العصور المظلمة إلى عصر الأنوار والتقدم الفلسفي والعلمي في العصر الحديث. وهذا هو نفسه ما حدث في الحضارة العربية الإسلامية إذ لم تتبلور صورتها في صنع التقدم للبشر أجمعين إلا على يد الفلاسفة والعلماء المسلمين الذين نجحوا في التحوّل من عصر النقل عن الآخرين إلى عصر الإبداع الفلسفي والعلمي غير المسبوق بدافعٍ من دينهم الإسلامي الذي حضّهم على إبداع الجديد وارتياد كل مجالات الحياة وآفاقها.

ختاماً نقول إن ثمة علاقة لا تنفصم بين تأملات فلاسفة العصر الحالي وإبداعات علمائه. فقضايا التقدم الإنساني وتحدياتها المتوالية والمتنامية يتشارك الآن في تأملها ووضع الحلول المناسبة لها الفلاسفة والعلماء على حد سواء، مثل قضايا البيئة، وأخلاقيات البحث العلمي، ومعالجة المشكلات الناجمة عن التطورات العلمية في مجالات الاستنساخ وزرع الأعضاء والهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي.. إلخ. وكما تبين لنا في ما سبق أنه لا علم من دون فلسفة، ولا فلسفة من دون علم، حيث التشارك والتعاون بين إبداعات الفلاسفة والعلماء هو ما يقود قاطرة التقدم الإنساني دوماً إلى المزيد والمزيد من الإنجازات والنجاحات المبهرة، فكذلك لا نظر من دون عمل، ولا عمل من دون نظر، حيث إن النظر - وهو التأمل العقلي في القضايا والمشكلات - لا يكون أولاً وأخيراً إلا بغرض الوصول إلى حلول عملية قابلة للتطبيق في حياتنا العملية في مجالات الحياة كافة.

*أكاديمي ورئيس الجمعية الفلسفية المصرية

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق