روى صاحبُ التذكرة الحمدونيّة أنَّ رجلًا قيل له: جاء رمضان، فقال: «والله لأبدّدنّ شمله بالأسفار».

وهذه المقالة بدورها ستُشتِّتُ شملَ هذه المقولة على أربعةِ مستويات: الأول: أنَّ المعنى (القريب) للذهنِ هو الخَلاص من الصيامِ بالسفر؛ مما يَجعل المقولةَ تُشير إلى تناقضاتِ النفس، بين إيمانٍ بالشهر، وإلحادٍ به في آنٍ واحد. إلا أنَّ السؤال: كيف لمن يَعرف أنَّ السفرَ من رُخَصِ الصومِ، لا يَدري أنَّ عليه القضاء بعد أن يَستقر؟

هذا السؤال يَنقلنا إلى المستوى الثاني: وهو أنَّ للمقولةِ معنى (الطقس الجماعي)، أي أنَّ هذا الرجلَ سيقضِي الصيامَ بفردانيّةٍ ملغيةِ لمفهوم رمضان القائم على طقس جماعي، وهذا يعني أنَّ رمضانَ بلا (آخرية) ليس برمضان فعلًا، و(تبديدَ الشمل)، هو إلغاء الصفة الأساسيّة التي يَعتمد عليها رمضان، الصفة التي يَفقِد هويتَه إن هو فقدَها، ألا ترى أنَّ تبديدَ شمل العائلة، يعني جعلهم أفرادًا متباعدين لا ناظم لهم؟!. لهذا فسَفر الرجلِ يعني خروجَه من زمنيةِ رمضان إلى زمنيةٍ أخرى، هي زمنيةِ التفرّد، وأمَّا قضاؤه الشهرَ فهو تكفير عن التبديدِ، لا صيامًا له. إذن من صَامَ رمضان منفردًا في مكانٍ لا آخرية فيه، لا يُقال له: هو في رمضان، بل هو يُكفِّر بالصومِ تبديدَ شملِ رمضان؛ ألا ترى أنَّ المسافرَ بالخيار إمَّا أن يَصوم أو يُفطِر؟ إذ لا فرقَ طالما أنَّ الزمنَ الجمعي مَلغيٌّ، بل إنَّ مدرسةَ أهلِ البيت تقول بوجوب الإفطار في السفر؛ لأنَّ (شهود الشهر) لم يَحصل، وهذا معنى من معاني قول القرآن «فمن شهد منكم الشهر فليصمه»، أي دخلَ في زمنِه الآخَريّ، ولم يَكُن متفرِّدًا خارجه. وهذا معنى نِسبيّ يُزمِّن رمضانَ من زاويةٍ اجتماعية، ألا تَرى أنًّ المذهبَ المالكيَّ قالَ إنَّ مَن رأى هلالَ شَوال، فإنَّه لا يُفطِر حتى يُعلِن المجتمعُ خروجَ الشهر؟ لهذا فإنًّ دخول رمضانَ في دولةٍ مَا يَختلف عن رمضان في دولةٍ أخرى من هذه الحيثيّة النسبيّة؛ إذ المعول عليه هو الطقس الاجتماعي، لا الزمن المجرد، ومن هنا كان صيام رمضان، مختلِفًا عن مفهومِ الصومِ نفسِه، ألا ترى أنَّ المتصوفة يَعدّون الصومَ من منازل الحبِّ الإلهي بوصفه انفرادًا وتفردًا، وأما رمضانُ فهو عبادةٌ جماعيةٌ، ليست متعلقة بالحبِّ الخاصّ، بل بالتقوى النظاميِّة في المجتمع؟ لهذا قال الخليل: «الصوم قيام بلا عمل»، وهذا معنى عميقٌ في تَبصّرِ المعنى الرمضانيّ الجماعيّ، ومُقابله التبديد الفردي.


المستوى الثالث أنَّ العودةَ لمفهومِ السَفرِ قديمًا يُعطينا دلالة أنَّ لفظَ (الأسفار) في قولِ الرجل، إنَّما هو لعبة مجازية، فاللفظةُ تَحتَمِل معنيين: الأول: التنقّل من بلدٍ إلى بلد، والثاني: جَمع سِفر، وهو الكتاب، و(السَفْر) الكتابة؛ كما قال الخليل في كتاب (العين) فحين أقولُ: (سَفَرتُ الكتابَ) فالمعنى أني كتبتُ. أمَّا المعنى الأول فالأسفار جمع سَفَر، مما يعني أنَّ الرجلَ لا يُريد سَفرًا ممتدًا، بل أسفارًا متعدّدة متفرقة، والتنقلُ المتعدد من بلدٍ إلى بلد لم يكن بالأمر الهيّن آنذاك، فكيفَ وهو في شهرٍ واحد؟ لهذا فإنَّ المعنى الثاني وارد بوصفه تبديد لشملِ معنى (صوم رمضان) بالأسفار وهي الكتب الموازية لكتابِ المسلمين، يقول الخليل: «والأسفار أجزاء التوراة، وجزء منه سِفر، والتوراة خمسة أسفار». ثم ألا يُلاحَظ أنَّ القرآنَ لمَّا أرادَ أن يُقِرّ الصيامَ جاء بلفظِ (كُتِبَ)، وجعلها مقترنةً بالأممِ الأخرى؛ حيث قالَ: «كُتِبَ عليكم الصيام كما كُتِبَ على الذين من قبلكم...»؟ ثم إنَّ البابليين والآشوريين كانوا يقيمون الطقوسَ الجماعية لصيام ثلاثين يومًا متفرقة في السنة من شُروق الشمسِ إلى غروبها، والتفريق -هنا- يَدُلّنا على التبديد الذي أراده الرجل لشهرِ رمضان، من حيث زمنيّته الجماعية، وواجباته الاجتماعية.

المستوى الرابع أنَّ هذا المعنى المجازي يُحيل على كاتبِ السِفر نفسه، وهو صاحب المعاناة حين يَصوم القلم، إذ ليس الصوم إلا (الإمساك) ألا ترى النابغة الذبياني يقول:

«خيل صيام، وخيل غير صائمة/ تحتَ العجاج وأخرى تَعلُكُ اللُجما»؟.

فحبسةُ الكاتبِ صيامٌ، والأهم هو معاناة الكاتبِ وهو يتلذّذ، مثل الصائم تَديّنًا، ألا تراه يَتعذّب جوعًا وعطشًا لكنَّه يتلذّذ بالتقربِ إلى محبوبه؟ يَحضر -هنا- الروائيُّ الأمريكي (همنغواي)؛ لأنه كاتب يدعو إلى صيامٍ اجتماعيّ يُشبِه التزمينَ الرمضانيّ، أليس مذهبه الواقعيُّ يَفرِض عليه صيامًا جَماعيًا من نوعٍ ما؛ لتحصيل المطالب، كما جاء في مقابلته الصحفيّة مع مجلة (باريس ريفيو) عام 1958م، لكنَّه -أخيرا- صام متفردًا بعد أن أطلقَ على دماغِه رصاصةَ الصومِ الانفرادي؟ ثم إنّه صاحب نظرية المعاناة اللذيذة في الكتابة، تلك التي شبَّهها بتلبّكِ الأمعاء ووجعها، كما جاء في رسائله إلى (ماكسويل بركنز) و(مالكوم كاولي) و(إيفان كاشكين) وغيرهم، ومفاد هذه النظرية أنَّ الكاتبَ يَشعر قبلَ الكتابةِ بمعاناةِ التلبّك المعوي، كأنَّه في حالةِ مخاض، ثم لمَّا يَسيل القلم يزول الألم، إذ ليسَ هناك قاعدة في الكتابة، فيومٌ يُكتَب على الورق كأنّه (سهود ومهود)، ويومٌ كأنّه الأهوال في سورةِ (هود)!. ثم إنَّ همنغواي يُعوِّل على رياضةِ (المشي) في تفكيكِ حبسة الكتابة، والمشي ليس إلا سَفرًا، ينقُلنا من مكانٍ إلى آخر، والحبسةُ ليست إلا صَومًا؛ لهذا من المعروف أنَّ همنغواي كان يكتب (واقفًا) علامةً على أنَّ المسافر/الماشي/الكاتب، لم يَترك أسفارَه، بل وصل طرفًا بطرف لتبديدِ شملِ الصوم الجماعي.

التفاتة:

السَفرُ -ذهنيًا أو جسديًا- مُعَوّلٌ عليه في إلغاء (صيام) الكاتبِ الذي ولد من القيدِ النظامي، و(رمضانَ) الكتابةِ الجماعية.