بدأت اللحظة التي تأصلت فيها "المفاهيم السياسية الشرعية" حين أقام النبي صلى الله عليه وسلم "دولة المدينة"، التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم إضافة إلى "ممارسة مهام النبوة" يمارس "إدارة شؤون الدولة الفتية"، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يقدم نفسه ملكاً، بل إن الله تعالى خيره بين (الملك) و(النبوة) فاختار أن يكون نبياً، وحين ساومته قريش على أن يترك ما يدعوهم إليه ويملكونه عليهم قال: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه)، فهو كان نبيا مرسلا، يعلم الناس الهدى والنور والإيمان، ويرسم لهم سبيل الهدى والرشاد، ولم تكن سيرته سيرة الأباطرة والقياصرة في زمانه، بل كانت سيرته سيرة "المعلم" والمرشد الذي يدل الناس على سبيل الهداية ويحذرهم من سبيل الغواية.
إن المتأمل في سيرته عليه الصلاة والسلام ليدرك أنه رسخ "المبادئ العليا" التي يحتاجها الجميع أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، ورسم معالم أخلاقية وقانونية عامة، فرق فيها بين ما كان من "التعبدات المحضة"، وبين ما كان من قضايا "الحياة المحضة"، فجعل الأول منبعه ومرجعه "الوحي والنص"، والثاني جعل مرجعه "التجربة والحركة التاريخية"، ولذلك قال في هذه القضايا الإجرائية (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
لم يختط النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة طريقاً واضحاً في شكل "الحكم" وأنماطه، وإنما جعل الأمر إلى الناس من بعده، وهذا سر عدم "النص" الصريح على من يتولى بعده، وقد فهم الصحابة الكرام هذا فكان لكل خليفة طريقاً في التولية والاستخلاف، فأبو بكر رضي الله عنه اختاره الصحابة في السقيفة، وعمر استخلفه أبو بكر، ثم حين طعن الفاروق عين ستة "مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض"، ولما قتل عثمان ذو النورين اختار الصحابة علياً بحكم قربه وجلالة قدره وكونه أفضل الناس مع الخلفاء السابقين رضي الله عنهم جميعا.
لقد كانت السمة البارزة التي دلت عليها النصوص الشرعية فيما يتعلق باجتماع الناس التركيز على المسائل الكبرى التي يحتاجها الناس مثل: العدل، والقسط، وإقامة قضايا الدين، ورسم المعالم الكبرى في التعامل مع حالات السلم والحرب والمخالفين، وإقامة الشعائر الكبرى، وحركة الاحتساب، ولكن آلياتها التي تطبق من خلالها على الواقع متغيرة بتغير الزمان والمكان، متسقة مع الظروف والحراك التاريخي والاجتماعي، قابلة للتطوير بما يستجد من نظم حديثة يمكن أن تتجدد مع المحافظة على "المقاصد العامة" و"الكليات" الشرعية التي تدل عليها مجمل النصوص الشرعية.
الناظر في نصوص الشريعة يجد أن الحدود القطعية محصورة ومحدودة، وأن فضاء "الاجتهادات" المتعلقة بسياسة المجتمع قابلة للتطور والتغير، بل هي "اجتهادية" خاضعة للتقدير المصلحي والرأي الخاص، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يرسل سرية كان يوصي كما في حديث بريدة في صحيح مسلم بقوله: (وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه؛ فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا) رواه مسلم.
وهذا يدل على أن كثيراً من القضايا السياسية هي قضايا اجتهادية لا يصح نسبتها إلى الشريعة، وأن القضايا "القطعية" التي يجزم الإنسان أنها "حكم الله ورسوله" هي القضايا المعروفة من الدين بالضرورة، ومسائل الإجماع القطعي اليقيني التي لا يخالف فيها أحد من الناس، أما ما سوى ذلك من الاجتهادات والوسائل وآليات الحكم وطرائقه فهي مسائل اجتهادية ظنية لا يصح نسبتها إلى الشريعة إلا من باب كونها داخلة في عموم النظر الاجتهادي الشرعي.. وعليه فلا يصح أن يقال إنها مراد الله وحكمه.
كما أن التركيز على "المقاصد والكليات" التي جاءت فيها الشريعة في "الحكم والسياسة" هي التي تضبط حركة السياسي وتطبيقات ما يريد إيقاعه على أرض الواقع، فإن من المعاني العظيمة التي جاءت بها الشريعة تحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها، ولا يمكن أن تكون المصلحة الظاهرة الموافقة للكليات الشرعية والعقل السليم إلا موافقة للشريعة باعتبار أن هذا هو مقصدها وغايتها، وعليه جاءت ممارسات النبي صلى الله عليه وسلم السياسية ممارسات مصلحية ظاهرة، بل ربما ترك النبي صلى الله عليه وسلم "الحكم الجزئي الخاص" في سبيل تحقيق "المصلحة الكبرى للأمة"، كما حصل في صلح الحديبية.
إن ممارسات الصحابة الخلفاء تدل على نزعة "التطوير" في الممارسة السياسية حتى لو كانت هذه الوسائل من منتجات الأمم المخالفة، فهذا الفاروق عمر استفاد من معطيات النظم في زمانه فدون الدواوين، وضع للخراج ديوانا، وللجند ديواناً، وقسم الولايات، وأجرى للقضاة أرزاقاً من بيت المال، وكان يراعي في ولاته تحقيق خدمة الناس وخاصة الضعفاء، وكان يسأل الناس في الحج عن سلوك الولاة: "هل يعود مرْضاكم؟ هل يعول العبيد؟ كيف صنيعه بالضعيف؟ وهل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصْلة منها: لا، عَزَلَهُ".
إن حركة التجديد والنهضة هي حركة "حية" لا بد أن تخضع للمستجدات، وهذا الأمر ضروري في حال الأمن والاستقرار، وهو أشد ضرورة في حال الاضطراب الذي يحتاج إلى الإصلاح والإسراع فيه، وقد شهدت المملكة العربية السعودية قفزات نوعية في هذه الأنماط، أخذ ولاتها وفقهم الله كليات الشريعة ومقاصدها في تطوير البنية السياسية ابتداء من تطوير نظام الحكم، ومن ثم نظام البيعة، وها نحن الآن نشهد تطويراً للقضاء والقطاعات العدلية والتجارية، ونحتاج معها إلى مزيد من الاستفادة من كل المعطيات النافعة التي تنعكس على تحقيق المقاصد التي قامت عليها الدولة متخذة من عمق الأصالة والقيم نبراساً للانفتاح على روح العصر ومستجداته، موائمة بين الأصالة والمعاصرة في تحقيق التنمية والرفاه وتحقيق العدل والحق في ربوع وطننا الغالي.