لم يحسب حسابًا للزمن.. نسي أنه سيترجل من ذلك الكرسي الدوار يومًا، ويحال إلى التقاعد، ويصبح مواطنًا عاديًا، كان مسؤولا، لم يمض على تركه الخدمة وإحالته إلى التقاعد سوى فترة قصيرة، وحين كان في منصبه، كان الطاووس يغار من مشيته، وكانت خيلاؤه تسد عين الشمس.. والويل للساعي الذي يعمل في مكتبه، إذا لم يسبقه إلى موقف السيارة، ليفتح له الباب، ويحمل له «الشنطة»، ويهرول أمامه لفتح باب المصعد وإحداث حركات مختلفة، ليعلم بقية الموظفين أن «سعادة» المدير وصل.
الدعوات على مكتبه لا حصر لها، ويصل الأمر ببعض المتزلفين في المجتمع لإحضار كروت الدعوات بأنفسهم، ولا يغادرون المكتب إلا بعد أن يحصلوا على موافقة سعادته بتشريفهم بالحضور، صوره في الجرائد لا تختفي بين الأسبوع والآخر، حتى لو أصابته أنفلونزا، أما تصريحاته النارية بأنه عدو الروتين، وتعطيل مصالح المراجعين، وأن باب مكتبه مفتوح طوال فترة الدوام، فهي تصريحات لا تفارق لسانه، خصوصًا أثناء وجوده في الدعوات العامة أو الخاصة.. حجز، أو صفقة «بزنس»، لشراء قطعة أرض في موقع إستراتيجي في مكان ما.
لكن التظاهر و«الفشخرة» شيء، والواقع شيء آخر، فمراجعو إدارته لا يرون إلا الطوابير والحاجب الذي يتحكم في دخولهم وخروجهم، أما الشروحات التي على معاملاتهم فهي «أكوام» من الألغاز، التي لا يستطيع المراجع فك رموزها ومعرفة معناها، هل هي موافقة أم رفض أم «زحلقة»، ولم يحدث أنه شرح شرحًا ملزمًا بإنهاء إجراءات معاملة ما فورًا، إلا لمن يقدمون له الدعوات أو الذين يقيمون له الولائم.. ومن يخدمون أغراضه الخاصة كتركيب تليفون، أو توصيل كهرباء، أو تأكيد التليفونات على مكتبه لا ترن وتصهل، إلا على صوت صديق، أو قريب، أو الزوجة الكريمة التي تذكره بموعد العشاء الليلة عند عائلة فلان.
لم يحسب حسابًا للزمن.. ولم يقدر -يومًا ما- أنه سيصبح رجلاً عاديًا قد يحتاج إلى «آخرين» في إدارات أخرى، من الذين احتاجوا إلى إدارته يومًا، ولم يجدوا إلا العناء «وحرقان الدم»، في إنهاء إجراءات معاملاتهم، وها قد جاءت لحظة التقاعد، وغادر كرسيه حزينًا، وقد اسودت الدنيا في وجهه، واعتكف في منزله لعدة أيام، لم يطرق خلالها بابه «شَباب النار»، بعد أنه كانت تليفوناته لا تهدأ، ومكتبه لا يخلو من أصحاب المصالح، ومنزله يستقبل ويودع الموظفين الوصوليين، وبعض أصدقاء المناصب، وبعض من يريدون أن ينالهم شيء من بركاته ورضائه عليهم، وتحول شارع منزله -فجأة- إلى شارع غارق في الظلام، بعد أن كان يسبح في برك النور والبلور، وبقي وحده ينظر إلى الأنوار المطفأة التي كانت تذكره بمنصبه، الذي لم يحاول هو أن يبقي فيه «لمبة» مضاءة واحدة تؤنسه بعد خروجه من ذلك المنصب.
لكن الأكثر من ذلك، عندما ذاق من الكأس نفسها التي كم كان يسقي منها مراجعيه، فقد اضطر في الأسبوع الثالث من تقاعده إلى مراجعة إحدى الإدارات الحكومية، وإذا بأحد الموظفين الذين ذاق من سعادته الأمرين حين كان يراجع إدارته، يتعرف عليه، وكانت فرصة كم تمناها.
وحين قدم سعادة المدير المنتهي الصلاحية أوراقه لذلك الموظف المغلول، بدأ الأخير في تقليب الأوراق والنظر فيها لمدة لم تزد على الدقيقة الواحدة، وعندها ثار سعادة المدير وقال له:
- ألا تعرف من أنا؟!
وتجاهل الموظف معرفته وسأله باستخفاف
- من الأستاذ؟
فرد عليه بحدة وأعلن عن اسمه ومنصبه الذي كان، وبدون أن يرفع الموظف رأسه من على مكتبه، ألقى إليه بتلك العبارة التي يستعملها بعض الموظفين في كل مناسبة وقال له:
- تعال بكرة.. والتفت إلى مراجع آخر.
ولا تسألوا من هو، فهو واحد ولكنه نموذج، وحاله حال كثير من أولئك الذين يتلذذون بتعذيب الناس، «واللي على رأسه بطحه يحسس عليها».
1992*
* كاتب صحفي سعودي «1947- 2017»