فبعد أن يأس البعض من الفساد في الفترة الماضية، حتى إن البعض بدأ يتعايش معه واعتبره شيئاً طبيعياً كأنه من المسلمات، وكان البعض يقول لنا عندما نكتب المقالات عن الفساد قبل سنوات إنك تنفخ في قربة مثقوبة! والفساد موجود في كل مكان، والحمد الله استمررنا رغم المحبطين إلى أن جاء عهد الرؤية وعهد العزم والحزم، وبدأت حملة شرسة لمكافحة الفساد بقيادة سمو ولي العهد، وما قصة الريتز ببعيدة، فهي تعتبر علامة فارقة بين مكافحة الفساد ومثال ساطع بأنه لا أحد سينجو من الفساد، وكتبنا وقتها عن الريتز ورمزيته وأهميته، وحدث الذي كان البعض يدعي أنه مستحيل، وبدأت تنظف البلد من الفساد المالي ووضعت كل الأدوات والإمكانات لتمكين هيئة مكافحة الفساد نزاهة من القيام بعملها على أتم وجه، واستمرت نزاهة في مطاردة الفاسدين حتى أصبحت كابوساً يؤرقهم، ونستطيع القول إن هناك نجاحًا باهرًا لمكافحة الفساد المالي الذي أصبح نادر الحدوث، الآن بقي النوع الثاني من الفساد الذي لا يقل خطورة عنه بل قد يزيد عليه خطورة، وهو الفساد الإداري، فالفساد الإداري بشع ويخرب الأوطان،
لكن مشكلته أنه كالزئبق صعب الإمساك به أو إثباته، فهو ليس كالفساد المالي هناك بينة واضحة وأدلة موضوعية يمكن إثباتها، بينما الفساد الإداري متقلب الوجوه والاتجاهات والشكل ويصعب اكتشافه ومن ثم يصعب إثباته،
لكن أثره على المجتمع قد يزيد خطورة عن الفساد المالي، لأن الفساد المالي قد يكون حالة مؤقتة أو وقت معين بينما الفساد الإداري مستمر وينهش في مقدرات الوطن ويخرب تطور البلد.
يقال إن إحدى الإستراتيجيات لتدمير الاتحاد السوفيتي سابقًا وسقوطه كانت من خلال وضع الإنسان غير المناسب في مكان مناسب مما يؤدي إلى شلل وتخريب في الموقع ومع كثرة الفاشلين والتخريب مما يؤدي لاحقًا إلى سقوط النظام، وهذا الإنسان غير الكفؤ عند تعيينه سيحرص على إحضار أناس غير أكفاء أقل منه ليتمكن من التحكم، فينحدر المستوى ككل ومن ثم تستمر الدائرة هكذا دواليك وتخرب المنظومة كاملة. إن تطور البلدان وتقدمها أشبه ما يكون بآلة ضخمة مكونة من مئات التروس، إذا خرب ترس واحد توقفت بقية الآلة أو تأخرت عن القيام بعملها، فما بالك إذا كان هناك أكثر من ترس خربان أو «مصدي» أو مسوس فتتعطل الآلة كلها ومن ثم يتوقف تطور البلدان.
لذلك دائمًا نحذر من الفساد الإداري، صحيح أن الفساد المالي سيسرق البلد لمرة أو عدة مرات لكن أثره إلى حد ما محدود بإطار معين، أما الإداري فالمكان أو المنصب أو الترس المسوس أو «المصدي» أو الخرب سيبقى في مكانه لأعوام وسيخرب ويدمر المنظومة ككل.
قد يقول قائل كيف نكتشف الفساد الإداري، الموضوع صعب لكن إلى حد ما ممكن تحجيمه من خلال وضع بعض القواعد المهمة التي ستقوم بجعل الفاسد الإداري صعب، قد يقول قائل إنه عندما يأتي مسؤول معين فإنه يريد جلب الناس أو الفريق الذي كان يتعامل معهم والناس الذين يفهمونه، وهذا شيء معروف ومفهوم والمسؤول يريد أن يحاط بفريق يثق فيه ويعرف طريقة عمله وماذا يريد.
لكن الكارثة تكون في مشكلتين أساسيتين وهما «الباراشوت» و«التحويلة»، أما الباراشوت فهو أن يأتي أحدهم إلى المنصب بدعم أو توصية من أحد في الإدارة لكن مؤهلاته وشهادته وخبرته لا تؤهله حتى لشغل نصف المنصب! التوصية قد تكون مهمة لكن لا تعني القفز وإحضار أشخاص غير مؤهلين وإطلاق لقب «استقطاب»، علم الاستقطاب في كل العالم يأتي لكفاءات استثنائية أثبت نجاحها ولديها تاريخ في النجاحات وليس فقط القفز من مكان إلى آخر، الاستقطاب يكون من خلال تاريخ من الإنجازات والنجاحات وليس تاريخًا من تعدد الوظائف السابقة، أما التحويلة فهي إحضار موظفين وبين قوسين «استقطابهم» وهم كانوا لفترة وجيزة فقط في إحدى المؤسسات الاستشارية أو الشركات العالمية المعروفة والقول إنهم خبراء أو موهوبون، مثلًا موظف عمل في أحد البيوت الاستشارية العالمية لسنة أو سنتين أو بعض الوقت فإنه لا يعتبر خبيرًا في المجال، الخبير معلوم تعريفه ومدته، والأهم ماذا أنجز وما هي نجاحاته على أرض الواقع حتى يصبح مستشارًا أو خبيرًا، لحل هذه المعضلة أعتقد أن الأفضل هو وضع عدة آليات متفق عليها.
لا نمانع أن أحد المسؤولين يرشح أو يوصي بأحد الموظفين لوظيفة معينة، لكن سيرة الموظف الذاتية تراجع من عدة جهات مثل مكافحة الفساد -نزاهة وإعطاء «نسخة» أو «سي سي» للعلم والاطلاع حتى لا تتأخر عملية التعيين لكن إذا وجدت إحدى هذه الجهات أن ليس هناك تناسب بين الوظيفة والخبرات تسأل وتستفسر عن الموضوع. أيضا نعتقد وبقوة أن من أهم عوامل النجاح في الاستقطاب والتعيين هو: الإنجازات السابقة والنجاحات الملموسة السابقة، شخصيًا أكثر شيء يهمنا عندما ننظر لسيرة ذاتية لشخص ما، أن أرى ما هي إنجازاته الملموسة ونجاحاته السابقة المعروفة وأيضًا المبادرات الإبداعية التي عملها سابقًا والمهارات، أما بقية الأمور فقد تكون مهمة لكن لا تأخذ الوزن الأكبر على الأقل لدينا.
بينما إذا تعددت المناصب السابقة ومن مكان إلى مكان دون تحقيق شيء ملموس، فهذا لا يدل على الخبرة، فربما يكون هذا المنصب الذي يقدم عليه مجرد محطة انتقالية كالسابق دون إنجاز يذكر فلن تستفيد منه حق الاستفادة، الرؤية وضعت وبنيت على الإبداع الابتكار والاحترافية والسبق والبحث خارج الصندوق فلا يصلح لها إنسان بيروقراطي يكره التغيير.
أتمنى أن يكون هناك تركيز في الفترة المقبلة على الفساد الإداري وأيضًا تشجيع للمبدعين والبحث عن الكفاءات خارج الأطر والقنوات التقليدية، ما شاء الله السعودية ولادة، وفيها كثير من المبدعين والاستثنائيين والموهوبين والمؤهلين، يحتاجون البحث عنهم بطريقة احترافية واستقطابهم، وفي نهاية المطاف أي مبدع أو موهوب يمكن استقطابه، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب سينعكس إيجابيًا على البلد وسيكون ترسًا جيدًا يعمل على تسريع ماكينة التطور والتقدم في الوطن.