وقتما قرأت عنواناً عريضاً عن بكاء معالي الشيخ عبداللطيف آل الشيخ رئيس عام هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام رؤساء الهيئات الفرعية؛ تبادر إلى ذهني الكليل فوراً تصورات سلبية جانحة، بما يعتري الناشطين والمهتمين بالشأن العام، الذين يصرفون أمثال هذه المواقف لتطلعات وظيفية وتملقات سمجة، وعدت فوراً للنص الذي أبكاه، وإذا به توجيه من لدن والدنا خادم الحرمين الشريفين له ولأعضاء الهيئة، فأطرقت طويلاً.
لا تربطني بمعاليه أية علاقة، سوى اتصال يتيم هنأته فيه، وتمنيت له التوفيق بالثقة الملكية وقتما عيّن في هذا المنصب الحسّاس، غير أن الخطوات التي قام بها بكل جسارة حتى الآن أثارت كثيراً من اللغط المتوقع، فالحرس القديم في الهيئة، إضافة إلى الكثير من طلبة العلم الشرعي، ينظرون لهذه المؤسسة الاحتسابية بنوع من القداسة التي يجب ألا تطالها يد التغيير، وأن تبقى بأهدافها وطرائق عملها كما كانت منذ إنشائها، رغم أن الصورة الذهنية العامة التي انتهى لها رجل الهيئة في مجتمعنا، هو ذاك المترصّد للأخطاء السلوكية، المصاحب للعسكر، المطارد للمراهقين بسيارته (الجمس) الشهيرة.
معاليه قام بتغييرات عديدة، وأصدر قرارات اعتبرها معارضوه بأنها تقوّض أركان الهيئة، وأنه سينتهي إلى جعل الهيئة مجرّد واجهة فقط، وديكور جامد، ولو تأملنا بقليل من الإنصاف والموضوعية ما قام به؛ لالتمسنا له كثيراً من العذر، ولا يرمينّني أحدٌ بمجاملة الرجل، أو تملّقه -أي تلّمق رئيس هيئة!- أو محاباته، بقدر ما أنني سعيدٌ بأن الرجل ترجم كثيراً من المطالب التي كنت وبعض الفضلاء الغيورين المحبين لهذه الهيئة التي نعتبرها صمام أمان هذا المجتمع المحافظ، قد طالبنا بها في أزمنة مضت، وقبل مجيء معاليه.
لنأخذ مثالاً، توظيف المرأة في سلك الهيئة. آل الشيخ صرّح بنيّته في ذلك، وقامت عليه الدنيا ولم تقعد، وأدعو أحبتي المعترضين هنا إلى شيء من العقلانية. فهل حادثة (فتاة المناكير) كانت لتأخذ هذا البعد الإعلامي العريض، الذي وصل لصحافة الغرب التي تهكمت علينا وعلى بلادنا وشوهت صورتنا بكاريكاتيريتها؛ لو أن الذي اعترض على تلك الفتاة سيدة مثلها أو داعية حكيمة. القضية صوّرت على أنها تمييز فجّ ضد المرأة، فأي منطق في منع فتاة مراهقة من دخول سوق عام بسبب طلاء على أظافرها! بالتأكيد أن القضية كانت أبعد من ذلك، ولكني على يقين بأنه لو تصدى لهذه الفتاة وقام بنصحها امرأة وقور، أوطالبة علم حليمة، لانتهت القضية، وحتى لو حردت الفتاة وعاندت، فتصويرها يرتدّ عليها، ولن يتعاطف معها أحد، لأن الذي منعها امرأة مثلها لديها صلاحيات رسمية.
معظم قضايا الهيئة الأخلاقية تشترك فيها المرأة بنسبة 80% وحتى أكثر، أفمن العقل استبعاد المرأة؟ وانظروا - يا رعاكم الله - للفتيات المراهقات اللواتي يواعدن شبابا من أعمارهن، أو كن متبرجات بطريقة لافتة، أو قمن بسلوكيات خاطئة، ألا تجفل هذه المراهقة مباشرة من منظر الشيخ المهيب، وربما هربت ولكنها ستنتظر فرصة أخرى، ولكن ماذا لو تصدى لها سيدة لديها مؤهلات جامعية، وألمّت بفنون الهندسة النفسية، وقامت بنصحها بطريقة أمّ لا طريقة امرأة أمن، أجزم بأنها تستطيع إقناعها بالحسنى بأن تقلع عمّا هي فيه، وصدقوني سيرعوي كثير من فتياتنا اللواتي هنّ في مرحلة عمرية حسّاسة، يحتجن لروح أمّ تناصحها أكثر من رجل يردعها، وبالطبع كي لا أذهب في تفاؤلي بعيداً، تبقى نسبة قليلة لا يرتدعن إلا بالعقاب، وتلك قصة أخرى.
نأتي لموضوع المطاردات. هؤلاء شباب في قمة مراهقتهم، ويقعون في تلك الأخطاء السلوكية، ولكن أن ندفعهم دفعاً لأن يهربوا بالطريقة التي رأينا، ليقعوا في تلك الحوادث المريعة، التي أزهقت أرواحا في بعضها، هذا - لعمر الله - منكرٌ دفعناهم إليه أعظم بكثير من منكر الخلوة الذي أردنا أن ننكره. منع المطاردات لرجال الهيئة حيال أولئك الذين أخطؤوا من الشباب؛ قرارٌ صائب لو تأمّله أحبتنا، والإشكالية هنا في نفسية بعض رجال الهيئة، فذلك العامل الذي أتى لمعاليه فرحاً وجذلاً بأنه استطاع القبض على 15 امرأة في يوم واحد، تدلّ على نفسية رجل مترصّد أكثر منه داعية رحيماً يريد الستر والخير للمجتمع الذي يعجّ بالأخيار والخاطئين، في سنة كونية ماضية، وُجدت حتى في مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم.
أقسم بالله العظيم، لأعلم أنّ في الهيئة رجالاً من خيار الناس، ونفسياتهم بما نتمنى، وبهم من الفضل والحلم والعلم والسماحة مع المخطئين، ما لا نتصوره في أي جهاز آخر، وهم – بالمناسبة - الأكثر والأعمّ في هذا الجهاز، وهؤلاء هم واجهتنا وصورتنا المضيئة ورجال الهيئة الذين نريد، غير أنّ خطأ واحداً من فرد متعجّل هنا، أو متحمّس غرّ من هناك؛ يطمس صورة هؤلاء الأخيار، وتعمّم الصورة السلبية التي ذكرنا عليهم.
مساحتي محدودة، وإلا لاستطلت في مناقشة الأحبة، وأعود لما أبكى معاليه، وأتمنى من قارئ سطوري، أن يكون هو المخاطب بهذه الكلمات من لدن مليكنا، وأبي هذا المجتمع، وهو يوجه معاليه قائلاً: "إياكم والإضرار بالمواطن وإيذائه، ارحموا من وقع في خطأ، وتجاوزوا عمن اشتبه فيه، أبدوا النصيحة"، ثم أشار بيده - بما حكى معاليه - قائلاً: "أما الثوابت في الدين فهي خطوط حمراء لا أقبل تجاوزها، ولا أرضى لكم أن تتجاوزوها، وإذا كانت المعصية ظاهرة وخالفت ثابتاً من ثوابت الشرع، فلا بد أن تؤدوا أمانتكم، وستسألون عنها يوم القيامة، فالمسؤولية عظيمة".
هذه الكلمات نبراس لأحبتنا في الهيئة، ومنهج عمل. ليت معاليه يعلقها في كل مراكز الهيئة.