كما استدل بأن الجهاد عبادة كالصلاة والصوم والزكاة والحج وليس على المرء أن يسأل عن الحكمة في كل تلك العبادات.
وفي نهاية الفتوى سأل السائل نفسه عن فلسطين وما يجري فيها فأجاب الشيخ بأن الفلسطينيين في جهاد دفع من سنة 48 حتى اليوم ويجب عليهم الجهاد بكل ما استطاعوا وعلى ذلك يُنَزَّل الرأي فيهم الآن، أو كما قال عفا الله عنا وعنه.
ولأن هذا الخطأ من الشيخ مما أذيع وشاع الاستدلال به عند بعض الشباب ولأن له من النتائج على الفهم للإسلام والعمل به ما يبعد بالمرء عن حقيقة دينه فسوف أراجع هذه الفتوى بما يلي:
فأقول أولاً: وصفه لقولهم إن المفاسد إذا كانت أكبر من المصالح في الجهاد فإنه ينبغي العدول عنه، بأنها قاعدة إبليسية، قول منكر وإساءة للإسلام بأسره، فهذا الأمر مشى عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أول البعثة حتى وفاته، فلم يدخل حرباً إلا وكانت المصلحة فيها أكبر من المفسدة، فلم يأذن لصحابته بالجهاد في مكة وليس ذلك إلا لأنهم ضعفاء قليلون، ولو لم تكن المصلحة مقدرة في ذلك لأذن لهم ولاستجابوا له، وكان الله على نصرهم قديرا، ولعل مما أراد الله بذلك أن يصبروا وأن يعلموا أن موازين الدنيا من القوة والمنعة معتبرة ولا يجوز تركها .
وحينما هاجر الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة وأذن له بالجهاد اعتبر هذا الأمر، وأول ما اعتبره في بدر، حيث كانت إبل قريش القادمة من الشام عليها العشرات القليلة من الرجال، ومع ذلك خرج إليها الرسول، صلى الله عليه وسلم، بأضعاف عددهم 314 رجلا يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، ولما وصل وجد العير قد غيرت طريقها ووصلت إلى مكة ووجد قريشا قد خرجت إليه فانتظرهم.
وهناك عمل، صلى الله عليه وسلم، بكل ما يكفل له القوة التي تجعله يتغلب على فارق العدد بينه وبين عدوه وأعظم ذلك الماء حيث ردم ما قبله من آبار الماء وأبقى البئر الأخيرة وأقام عليها ووضع عندها حوضا لأصحابه يشربون ولا يشرب عدوهم، هذا مع أن الله وعده بالنصر في هذا الموطن وصير معه الملائكة ، وكان عدوهم ألف رجل عند المكثرين من كتاب السيرة، وسلاحه وسلاح أعدائهم واحد، السيف والرمح والسهم ولا زيادة، وبذلك نرى أن المصلحة راجحة في الجهاد، نقص العدد أعين عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بقوة الصحابة ثم بالملائكة المسومين ثم بعون الله الذي وعد به رسوله، صلى الله عليه وسلم.
وجاء الأمر في غزوة أحد كذلك، فلم تكن غزوة غزاها رسول الله، بل هي غزوة غُزِيَها، أي إن كفار قريش هم الذين غزو رسول الله في المدينة وكان جيشهم عند جبل أحد، فلم يكن له أن يختار، بل كان الأمر قد جاءه، ومع هذا فلم يكن من رأي رسول الله الخروج إليهم، بل كان رأيه إغلاق البيوت ويلزم نساؤها وصبيانها أسطحها، ويرجمون المشركين بالحجارة بينما يواجههم الرجال في الطرقات وهم أعرف بالمسالك من عدوهم إذا جاء، ولكن الشباب المتحمس كان يرى خلاف ذلك لعلهم يدركون ما أدركه أهل بدر فأطاعهم رسول الله وخرج وكان جيشه سبعمائة وجيش الكفار قريباً من الثلاثة آلاف، ولم يكن في المسألة أي خيار آخر غير خيار الحرب، ولم تكن هزيمة المسلمين يومئذ تامة إذ لم يحظَ الكافرون بنصر كامل، وقتل من المسلمين سبعون، وقتل من الكافرين ما بين العشرين والاثنين والثلاثين بحسب اختلاف الرواة ، كما أن لواء الكافرين انتهت المعركة وهو مطروح لا يجرؤ أحد على حمله إذ كل من حمله قُتل، كما أنه حدث في هذه المعركة من المصلحة للمسلمين أن جنب الله ديارهم آثارها، فلم ير الكافرون غزو المدينة رغم قربهم منها لما رأوه من بأس المسلمين إذ كاد النصر يكون لهم لولا غفلتهم عن أمر رسول الله، ولا شك أن رجوعهم إلى مكة كان إعلان هزيمة وحدة، فالمصلحة كبيرة في غزوة أحد رغم قتل السبعين وليس الأمر كما ذكره الشيخ.
وكذلك بعدها غزوة الخندق فقد كان المشركون عشرة آلاف من الرجال مضافاً إلى قريش أحلافها من كنانة والأحابيش وبني بكر وغيرهم، ولما كان المسلمون قلة، فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يعمد لقتالهم، مع أن معه من الصحابة من لا يعصون له أمراً، ومعه من توفيق الله ما لو سأل الله النصر لأثابه به، لكن لعل الله يريد أن يعلم الأمة حاجتها إلى الاستقواء والمنعة، وأن قتال العدو لا يكون دون ذلك، فأنشأ الرسول، صلى الله عليه وسلم، الخندق وبقي المسلمون داخل المدينة والمشركون خارجها وكفى الله المؤمنين القتال حتى خانت بنو قريظة فزلزل المؤمنون زلزالاً شديدا، وذلك لضعفهم من حيث العدد ، إلا أن الله كفاهم باختلاف الكافرين في ما بينهم وذهبت قريش وتركت من حالفت من اليهود أمام رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ولو تتبعنا غزوات الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، لوجدناها من هذا الشكل، ينظر رسول الله إلى المصلحة أولا فإن كان ثم مصلحة جاهد وإن لم يكن كف عن ذلك، فكيف تكون قاعدة إبليسية نسأل الله أن يعيذنا من إبليس وجنده من الإنس والجن.
أما استدلاله بالقرآن الكريم فأي آية من آيات الكتاب قالت إن الجهاد لا ينظر فيه للمصالح؟
والآية التي استدل بها بقراءتيها، قُتل معه وقاتل معه، تحض على الصبر على الألم وتحث عليه وليس فيها إنكار لاعتبار المصلحة.
وأما قوله، إن الجهاد عبادة فهو كذلك حقا عبادة معقولة المعنى، وما كان معقول المعنى يتحكم الإنسان فيه ويضعه في موضعه فأوقات الصلاة مثلاً ليس للإنسان أن يغيرها بعقله لأنها شرعت هكذا، وكذلك عدد ركعاتها، وكذلك نصاب الزكاة وما تصح الزكاة فيه وما لا تصح فيه من الأموال، وكذلك زمن الصيام وتصرفات الحاج، كل ذلك غير معقول المعنى ولا بد فيه من الالتزام عملا بأقوال الرسول، صلى الله عليه وسلم، كقوله صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم، فليس لأحد فيها رأي بعقله إلا سفيها لا يعقل ما يقول، أما الجهاد فلم يشرع عبثا بل شرع لإعلاء كلمة الله ولحفظ النفوس والأموال والأعراض، فليس لنا أن نقوم به في موضع نخسر به ذلك كله.
ومن يقول ذلك ليس إلا الخوارج الذين لا يبالون من قاتلوا وهؤلاء لم يجعل الله لهم إلى النصر سبيلا وأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنهم يخرجون إلى آخر الزمان وأعيذ الشيخ الددو هدانا الله وإياه أن يكون منهم.
أما ما ذكره عن أهل فلسطين وكون الجهاد واجبا عليهم من سنة 48 حتى اليوم، فنقول نعم إن ذلك واجب على من يملك منهم سلاحاً يحمي به نفسه وأهله، أما من ليس كذلك ومن يعتمدون في حماية أهلهم على مروءة العدو نفسه فإنا لا نقول بوجوب القتال عليهم، وها هي حماس وماذا فعلت وماذا فعل بغزة جراء بعدها عن الحق واعتمادها على مثل هذه الفتاوى هدى الله أصحابها.
وأما موقفنا مما يجري في غزة اليوم فإنه الدعاء لأهلها بالثبات والصبر وأن يكف الله أيدي عدوهم عنهم، كما ندعو لهم بالنصر، إلا أننا ولا بأس أن نقول ذلك نستبعده على حماس التي لا تفتأ تشكر إيران في كل أطوار حربهم مع العدو الصهيوني ونحن على يقين تام أن نصرهم لن يكون من قبل من يود موتهم ودمارهم ولا يقيم لفلسطين أي قدسية وليس للعرب السنة مكانة عنده أي مكانة حتى لو قيل مكانة كمكانة اليهود فإن اليهود عندهم أعظم قدراً من العرب السنة، هذا نحن على يقين به، لذلك نرى دعمهم لحماس لحسابات أُخر سوف يأتي الله بعلمها حين تتكشف الأمور.
هذا وأسأله تعالى أن يفرج الكرب على أهل غزة ويقينا وإياهم شرور الأعداء.